يأتي أخيراً الإعداد لإصدار الجزء الأول من كتابات المناضل والمفكر القومي جمال الأتاسي تحت عنوان “جمال الأتاسي، أبحاث ومقالات في الفكر والسياسة “.
أعدت صياغة السيرة التي بين أيديكم، والتي تتناول بإيجاز وتركيز أهم محطات حياة والدي جمال الأتاسي، في السنة التي سبقت غيابه، وكان ذلك بطلب من أحد رفاقه. وعند إتمام المهمة عدت إليه وطلبت منه الموافقة عليها، راجعها معي بدقة مبتسماً وصافناً.. وقد اخترت أن تكون هذه السيرة مقدمة إلى الجزء الأول من أعماله الذي سيضم في مدخله أيضاً تقديمًا عامًا لجملة الكتابات والوثائق والأبحاث إضافة لمنهج العمل وخطته.
لقد تأخر كثيرا مشروع طباعة أبحاث ومقالات الدكتور جمال الأتاسي، علما أنني كنت قد أنجزت جمع المادة واعادة تنضيد معظمها مع تنسيقها منذ العام 2002 بفضل الدعم الذي حصلت عليه من المخلصين الذين كانوا حولي من أصدقاء ورفاق والدي. ولا بد من التنويه هنا الى أن هذه المادة كانت متاحة دائما لكل من طلبها واحتاج العودة اليها. واليوم وبعد النكبة التي عاشتها سورية وبعد كل الدمار الذي أصاب في الصميم الانسان والحجر، التاريخ والتراث في بلادنا تأتي هذه النصوص أساسية لأنها تحمي ذاكرة جيل سياسي أخلاقي تحمل المسؤولية وأراد أن يكون دليلًا للجيل العروبي الشاب الذي يتلمس طريقه في أصعب الظروف.
جمال الأتاسي
مسارٌ فكري ملتزم في القومية والسياسة
كانت قضية القومية العربية في حياة جمال الأتاسي هي القضية المحورية والأساسية، قضية تحرر واستقلال وطني وقومي، قضية تسمح بالنهوض بالأمة على طريق التقدم والوحدة وإقامة دولة الأمة وذلك من خلال مواجهة أعداء الأمة وكل المشاريع المعادية لها. وضمن هذا المنهج كانت قضية القومية العربية قضية جمال الأتاسي فكراً وممارسة وعملاً والتزاماً وهذا على مدى ستة عقود من الزمن تقدم فيها مراحل وأطواراً.
أول التزام وممارسة نضالية ظهر فيها هذا التوجه لدى جمال الأتاسي كان التزامه بنصرة العراق عام 1941 والتحاقه، وهو في سنته الجامعية الأولى في كلية الطب في جامعة دمشق، مع مجموعة صغيرة من رفاقه الطلبة العرب، بثورة رشيد علي الكيلاني في بغداد. وآخر مشاركة عامة له في عام 2000، كانت مشاركته في المؤتمر القومي الإسلامي ثم في المؤتمر العام الثامن للإتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي حيث ألقى كلمة الافتتاح في 20آذار، وكانت هذه الكلمة آخر ما خطته يد المناضل جمال الأتاسي.
كان جمال الأتاسي من الشباب القوميين الملتزمين والنشطاء طوال فترة دراسته الجامعية في مدينة دمشق، وساهم عام 1943 بإنشاء “الرابطة العربية” للطلاب العرب الدارسين في كليات الجامعة السورية، وقام بإدارتها وتنظيم نشاطاتها ومحاضراتها من على منبر الجامعة، تبشيراً بالقومية العربية ووحدة الأمة في مواجهة الدعوات الإقليمية والأممية والأصولية التي سادت تلك الفترة.
ومن نشاطات تلك الرابطة كانت دعوة الأستاذ ميشيل عفلق لإلقاء محاضرته الخطابية على منبر الجامعة في “ذكرى الرسول العربي”، وهكذا قام تلاق كان له أبعد الأثر في الحياة السورية السياسية؛ وكان جمال الأتاسي أول من شارك (كممثل للطلبة الجامعيين) مع الأستاذين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ورفاقهما في تأسيس حزب “البعث العربي” وذلك في أواخر عام 1943؛ ولازم جمال الأتاسي الأستاذ عفلق في العمل لعدة سنوات، وشارك معه في وضع الميثاق الأول للحزب ووضع شعاراته وإصدار بياناته السياسية وتنظيم مناسباته الخطابية؛ وفي نيسان عام 1947 كان على رأس اللجنة التحضيرية التي أعدت أوراق المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي ومشروع ميثاقه القومي ونظامه الأساسي، وبعد ذلك انصرف بضع سنوات للدراسة والتخصص في الطب النفسي. سنوات قضاها أيضاً في التعمق في البحث النظري وفي الكتابة وإلقاء الدروس والمحاضرات السياسية فضلاً عن العمل الطبي والمشاركة في النضالات الوطنية.
وفي منتصف عام 1955 عاود نشاطه الحزبي في القيادة المركزية للحزب، عندما توسع الحزب وقد أصبح “حزب البعث العربي الاشتراكي” بعد أن ضم إليه “حركة الاشتراكيين العرب” لأكرم الحوراني، وفي هذه الحقبة الهامة أصدر الحزب في عام 1956 تحديداً جريدة “البعث” الأسبوعية وكان جمال الأتاسي أحد المشرفين الرئيسيين على سياسة الجريدة وصفحاتها الفكرية وكان له دوره البارز داخل قيادة الحزب، ومن خلال كتاباته المتعمقة والمنتظمة، في التبشير بوحدة القطرين والإعلان عن قيام الجمهورية العربية المتحدة في شباط/ فبراير عام 1958.
استمر بإصدار جريدة البعث بشكل مستقل ولعدة أشهر، بعد قيام الوحدة وحل الأحزاب، ثم اضطر للتوقف؛ وفي مطلع عام 1959 وبعد الإطلاع على كتاباته والتعرف على مواقفه القومية وبخاصة من خلال ما نشره في الصحافة اللبنانية حول انحراف عبد الكريم قاسم بثورة 14 تموز عن طريق القومية العربية والوحدة، رشحه الرئيس عبد الناصر ليكون صاحب ورئيس تحرير واحدة من الجريدتين المستقلتين اللتين تقرر الترخيص لإصدارهما في دمشق، وهكذا تولى جمال الأتاسي رئاسة تحرير جريدة الجماهير، الصحيفة اليومية التي قامت لتدافع عن الوحدة ودولة الوحدة في وجه الحملات المعادية، ولأول وآخر مرة في مسيرته المهنية تفرغ بشكل كامل لعمله في “الجماهير”. غير أنه آثر التوقف بعد مدة وبعد كتابة مقال افتتاحي بعنوان: “الصمت موقف”، تعبيراً عن الاحتجاج على النهج البيروقراطي والأمني الخاطئ الذي سار عليه حكم الوحدة في سورية، ولكنه أكد في الوقت نفسه على حرصه على استمرار الوحدة وتقدمها حتى لا يُستغل نقده لصالح أعداء هذه الوحدة؛ وفي محادثات الوحدة الثلاثية عام 1963، كان استعراض هام وتحليلي لهذه التجربة، وهذا ما يفسر ما جاء وجرى على لسان الرئيس عبد الناصر في اجتماعات المحادثات من سؤال بعضهم: “وما قولكم يا أصحاب الصمت موقف”.
وبعد توقف “الجماهير” انصرف جمال الأتاسي إلى ترجمة عدد من الكتب في أهمية الوعي القومي، واهتم بشكل خاص في هذه الفترة بالكتابة وتقديم البحوث والمحاضرات انتصاراً لثورة الجزائر.
وبعد أن وقع الانفصال كان بين النشيطين، كتابة وتنظيماً، سياسةً وعملاً والتزاماً من أجل إسقاط الانفصال وتجديد الوحدة مع مصر عبد الناصر، وكذلك في العمل من أجل قيام جبهة موحدة بين الجناح الوحدوي من حزب البعث الذي أعاد تنظيمه في سورية وبين القوى الشعبية الوحدوية (الناصرية)؛ وكان آنذاك المشرف الفعلي على جريدة البعث التي عاودت الصدور عام 1962، هذه الصحيفة التي لعبت دوراً بارزاً في معارضة عهد الانفصال؛ ثم شارك في حركة التغيير التي قامت بها القوى الوحدوية عام 1963، هذه الحركة التي عُرفت بثورة الثامن من آذار؛ ولكنه ما لبث أن استقال من الوزارة ومن مواقعه القيادية في حزب البعث ومن عضوية مجلس قيادة الثورة؛ وذلك بعد التعثر الذي أصاب التقدم على طريق الوحدة الثلاثية، وبالأخص عندما آثر الحزب الانفراد بالسلطة على الدفع والمضي على طريق الوحدة مع عبد الناصر؛ وكانت فترة تحول في حياته السياسية انحاز بعدها بقناعات راسخة إلى الحركة الشعبية الناصرية، وأمسك منذ ذلك الوقت، وما زال حتى يوم وفاته ، بنهج قومي ناصري مجدد فكراً وممارسة والتزاماً بالمشروع القومي النهضوي العربي الذي كان يستلهم توجهاته المستقبلية ومقوماته من تجربة الثورة الناصرية وما حركت وما قدمت وذلك بروح تجددية موضوعية تواكب تحولات وتعثرات العالم العربي.
لقد بقي جمال الأتاسي في كل مراحل حياته، يربط بين الفكر والممارسة، عملاً والتزاماً، وله موقعه في العمل الوطني والقومي والناصري، مع توجه ديمقراطي في هذه المجالات، توجه ديمقراطي تعمق في فهمه ودراسته وتحليله ليقدمه كجزء لا يتجزأ من العمل القومي العربي.
بعد هذا العرض العام للخط الوطني والقومي والسياسي الذي التزمه جمال الأتاسي في كل مراحل حياته لابد من التأكيد على أن كل مراحل هذه الحياة كانت مجندة لقضية التزمها بتصميم وإحساس بالمسؤولية. وما جاء هذا الانعطاف الهام في حياته السياسية عام 1964 وقبوله المسؤولية والأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي إلا تجسيداً لفكر قومي تنامى وتجدد اعتماداً على فهم حقيقي للبعد القومي والوطني لفكر عبد الناصر ومحاولاً متابعة الطريق بما كان لهذا النهج العروبي من إمكانيات عظيمة على مستوى الأمة العربية.
وكان كل ما درسه وقرأه وحلله جمال الأتاسي حتى في مجال اختصاصه في الطب النفسي أو في العديد من اهتماماته الفلسفية المبكرة قد أفاد منه في تعميق فهمه لمرحلة تاريخية بالغة التعقيد والخطورة على مستوى العالم العربي. وكان كل ما كتب أو ترجم أو نشر خلال أكثر من نصف قرن إلا وكان من خلال موقف إيديولوجي وسياسي ومن أجل إحداث فعل وتأثير هادف في مرحلة معينة من مراحل عمله الوطني. وهو إذا لم ينصرف في حياته شأن الكثير من الكتاب إلى جمع كتاباته وما نُشر وينشر له منها في الصحف والمجلات أو في “المنشورات الخاصة” فذلك أن همه كان يتمحور دائماً حول الحدث الذي يعيشه والنص الذي سيواكب هذا الحدث، وهذه النصوص كانت في مجملها تتصف بفكر عميق وذهن متألق يقظ مواكب لا للأحداث السياسية فحسب ولكن للثقافة والعلم والحضارة العالمية؛ وكم من مقال أو بحث كتبه دون توقيع بسبب أن هذه الكتابات كانت تندرج في إطار قومي أو وطني عام.
وفي هذا السياق، جاء العمل على جمع ونشر تراث جمال الأتاسي المدون، هذه الأبحاث والمقالات التي تشكل قبل كل شيء شهادة وذاكرة للتاريخ المعاصر والحديث في وطننا العربي، والتي تزداد أهميتها في هذا الضياع العربي الراهن.
لم أكن فقط الابنة الكبرى المسؤولة، بل أصبحت مع تقدم العمر والأيام صديقة
“الدكتور جمال”، ذلك أننا كنا نلتقي على الصعيد الفكري والثقافي، وكنت أيضا السكرتيرة الملتزمة، احمل له الصحف والكتب، ارافقه في بعض المهام الصعبة أو الانسانية، أرتب العيادة بشكل منتظم وأنظف وأعزل وأضيع في ترتيب الأوراق. هذه الصداقة الحلوة التي ما زالت حية في قلبي ووجداني سمحت لي بمواكبة وفهم عمق وأخلاقية التزامه السياسي الوطني، وهي أيضا التي دفعتني بعد رحيله الى أن أكون حريصة ودقيقة في جمع تراثه وذاكرته وحماية ذكراه.
سوف يضم الجزء الأول الذي يصدر تحت عنوان “جمال الأتاسي، أبحاث ومقالات في الفكر والسياسة”، بعض المؤلفات البارزة مثل كتاب “إطلالة على التجربة التاريخية لعبد الناصر ونهجه الاستراتيجي” ومبحث “الحوار مقدمة للعمل والديمقراطية غاية وطريق”، وآخر مقال نُشر في مجموعة مقالات مهداة إلى الأستاذ أنطون المقدسي تحت عنوان “القومية العربية على مشارف الألفية الثالثة”، إضافة إلى الحوار الشامل الذي أجراه معه الأستاذ مجدي رياض عام 1986 والذي تحدث فيه جمال الأتاسي مطولاً عن لقائه بالرئيس جمال عبد الناصر عام 1969.
كان جمال أتاسي قد أدرك حاجة بلده إلى الوعي السياسي والإنساني ولهذا لم يهجر أبداً الساحة وقَبِل المسؤولية كما قبل التكليف وتمثل هذا المثقف الملتزم محدداً ملامحه بهذه الكلمات: “ذلك الناقد الذي يقف من غير تحزب في معارضة واقع الظلم والفساد، وإذا عارض السلطة فليس كفوضوي يرفض أي سلطات للدولة أو النظام، وإنما يرفض التسلط والشمولية والاستبداد”.
لقد رحل عنا جمال الأتاسي ولكنه مستمر في فكره المتقدم والمبدعْ، في فكره العلمي القومي الناصري الذي ما زال ينهل منه رفاق دربه وتلاميذه.
” لقد غاب الرجل، ويغيب الرجال، وتبقى لنا التذكرة والذكرى، وإن من الذكريات ما يدل على طريق المستقبل ” *
*جمال الأتاسي في تأبين أكرم الحوراني، رجل الوطنية والسياسة.