عندما تحدثتُ للمرة الأولى مع جوزيف تينتر أوائل شهر أيار 2020، كان لدينا، أنا وهو، كما الجميع تقريباً، سببٌ يدعو للقلق. فقد ازداد عدد الإصابات بفيروس كوفيد-19 إلى حد كبير، وارتفعت مطالبات إعانات البطالة، كما حذّرت الأمم المتحدة من أن الكوكب يواجه “مجاعات متعددة ذات أبعاد كارثية”.
كانت الفوضى هائلة، لكن تينتر بدا هادئاً. وشرح لي خطوة بخطوة طروحات كتاب “انهيار المجتمعات المعقدة” الذي أكسبه شهرته، وكان لسنوات عديدة النص الأساسي في دراسة الانهيار المجتمعي؛ تخصص فرعي أكاديمي يمكن القول أنه نشأ مع نشر الكتاب عام 1988. “الحضارات أشياء هشة ومؤقتة”، يقول تينتر. تقريباً، كل حضارة وجِدت يوماً، زالت أيضاً من الوجود، إلا أن “فهم التفكك ظلّ بلا ريب شأناً ثانوياً في العلوم الاجتماعية”. مع هذا، أن نقترح أن “الانهيار” لم يكن شيئاً ببساطة قبل تينتر، فتلك محض مغالاة متساهلة.
إذا كان جوزيف تينتر، وهو اليوم في السبعين من عمره، الإمام الرصين لهذا الحقل، فلا يبدو أنه يستمتع بهذا الدور. لقد استمرّت أبحاثه الخاصة، وهو يركّز هذه الأيام على فكرة “الاستدامة”. لكن، حتى في أحدث أعماله، يبقى موضوعَه السابق حاضراً دائماً، محوّماً مثل شبح عند حافة كل صفحة. ففي آخر الأمر، لماذا نقلق في شأن استدامة حضارة ما لم نكن مقتنعين أنها قد تتقوض؟
لم يكن تينتر، الذي نشأ في سان فرانسيسكو وأمضى سني شبابه في الغرب، ملائماً يوماً ليلعب دور كاساندرا (العرّافة التي لا يصدقها أحد). يكتب تينتر برصانة ملطِّفة عن العوامل التي أكدت إلى تفكك الإمبراطوريات وهجر المدن، وعن الآلية التي تجعل من شبه المؤكد، في رأيه، أن كل الدول التي تنهض سوف تنهار يوماً ما. في المقابلات وندوات النقاش التي يشارك فيها، يجلس تينتر بهدوء غريب، مثل دب رمادي بنظارات مؤطرة، نادراً ما يبتسم، نادراً ما يعبس، ونادراً ما يبدي للعيان أكثر من نقرة سئمة بأصابعه على إحدى ركبتيه. في محادثتنا الهاتفية كان دمثاً إنما مقتضباً، يأخذ وقته في التفكير قبل الحديث، ونادراً ما يمنح أكثر مما يُسأل. ولم يكن متفاجئاً أنني اتصلت به لأسأله إن كانت أزماتنا المتفاقمة اليوم تشير إلى بداية تصدع مجتمعي خطير، لكنه لم يكن أيضاً متعجلاً في إعطاء جواب.
في السنوات الأخيرة، نما الحقل الذي ساعد تينتر في تأسيسه. وتماماً مثلما أصبحت الديستوبيات التنبؤية، مع وجود زومبي أو من دونه، رائجة على نيتفليكس وفي الأدب الرفيع على السواء، أصبح الانهيار المجتمعي والمصطلحات المرتبطة به _مثل “هشاشة” و”مرونة”، “خطر” و”استدامة”_ موضوعات لبحث أكاديمي مكثف وللبنية التحتية لهذا البحث. في جامعة برينستون برنامج بحثي متخصص بالخطر الشامل للنظام العالمي(Global Systemic Risk) ، وفي كامبريدج مركز لدراسة الخطر الوجودي. الكثير من الأكاديميين الذي يدرسون الانهيار هم، مثل تينتر، علماء آثار بالتدريب. آخرون مؤرخون، علماء اجتماع، باحثون في مجال نظرية التعقيد، أو علماء فيزياء حولوا اهتمامهم إلى الديناميكيات التي تشكّل النطاق الأوسع للتاريخ البشري.
بعد أن تكلمتُ مع تينتر، اتصلتُ ببعض هؤلاء الباحثين، وقد كانوا أكثر صراحة منه في التعبير عن قلقهم جرّاء الأوضاع الراهنة. “قد تخرج الأمور عن السيطرة”، حذّر أحدهم. “أنا خائف”، اعترف آخر. ومع انقضاء الصيف أصبح تينتر ذاته، على الرغم من حذره وتحفظه، مستعداً ليقرّ بأن للمجتمع المعاصر نقاط ضعف جوهرية يمكن أن تجعل الأمور تسوء كثيراً بالفعل؛ ربما ليس الآن، ربما ليس قبل بضعة عقود، وربما قبل ذلك. في الحقيقة كان تينتر قلقاً أن ذلك قد يبدأ قبل انتهاء عام 2020.
تقريباً، منذ أن تجمّع البشر بأعداد كافية لتشكيل مدن ودول _منذ حوالي 6000 سنة؛ مجرد ومضة في الــــ300 ألف سنة التي تشكّل تاريخ الجنس البشري_ نخرج بنظريات من أجل تفسير انهيار هذه الكيانات. أشارت الأسفار العبرانية إلى دمار سدوم وعمورة، واعتُبر الغضب الإلهي تفسيراً يُلجأ إليه منذ ذلك الحين. في كتابه “الجمهورية”، شبّه أفلاطون المدن بالحيوانات والنباتات، من حيث أنها عرضة للنمو والشيخوخة مثل أي كائن حي. وستدوم الاستعارة: في أوائل القرن العشرين، اقترح المؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر أن للثقافات أرواح؛ ماهيات حيوية تبدأ بالتداعي في اللحظة التي تتخذ فيها بهارج الحضارة.
طاردت مسألة الانهيار علم الآثار أيضاً، لكنها قلما دُرست بشكل مباشر. في السنوات الأولى لنشوء هذا الحقل، اتجه علماء الآثار إلى التركيز على البنى الأكبر والأكثر غرابة بين ما وجدوه؛ بقايا مبانٍ أثرية مهجورة منذ قرون في الصحاري والغابات. من بنى هذه الأعاجيب؟ لماذا تُركت لتبلى؟ إن مجرد وجودها يوحي بانهيارات مجتمعية كارثية ومفاجئة. لكن، في ذروة الحرب الباردة، عندما قرّبت إمكانيةُ وقوعِ حرب نووية المجتمعاتَ الحديثة من شفا الانهيار كما لم تكن يوماً، فقدت الأوساط الأكاديمية اهتمامها بالموضوع. ومال الباحثون إلى الاقتصار على فهم حالات مفردة، الأكاديين، مثلاً، أو حضارة المايا الكلاسيكية في الأراضي المنخفضة.
ولم يوحِ الكثير في بداية مسيرة تينتر أنه سيقوم بغير ذلك.
عام 1975، بعد تقديم أطروحته حول التبدل الذي حدث حوالي عام 400 بعد الميلاد بين ثقافتين سكنتا نهر إلينوي السفلي، عُيّن تينتر مدرّساً في جامعة نيومكسيكو لوقت قصير. ثم انتقل للعمِل في دائرة الغابات في الولايات المتحدة التي كانت تقوم بتعيين علماء آثار من أجل تقييم التأثيرات المحتملة لأي مشروع يقوم على أرض عامة. هكذا أمضى تينتر السنوات التالية في تحضير ومراجعة تقارير تُعدّ قبل قطع الأشجار أو عمليات التعدين في غابة سيبولا الوطنية في نيومكسيكو.
عام 1979، كتب تينتر مع مؤلف مشارك تقريراً لإدارة الغابات يحمل إشارات مبكرة إلى المخاوف التي ستهيمن على حياته المهنية بعد ذلك. كان التقرير عبارة عن لمحة عامة عن “الموارد الثقافية” الموجودة في المنطقة حول بركان خامد يدعى “جبل تايلور”، وهو موقع مقدس عند شعب النافاهو وعدة قبائل أخرى. (كان القسم المختص بالمعادن في شركة Gulf Oil” ” ينقّب في الجبل بحثاً عن رواسب اليورانيوم). امتدت قائمة المراجع وحدها لسبع وثلاثين صفحة، وقد أورد تينتر قسماً مطوّلاً عن تجمّع أبنية تشاكو كانيون الذي يبعد أكثر من 100 ميل عن جبل تايلور. ازدهرت حضارة تشاكو كانيون لخمسة قرون على الأقل قبل أن تُهجر مواقعها تدريجياً مع بداية عام 1100 بعد الميلاد تقريباً. في نصّ مخصص لخزانة ملفات حكومية، يتحسّر تينتر على: “عدم وجود إطار نظري يفسّر هذه الظاهرة”. ويتذمّر من أن الباحثين “أمضوا سنوات في البحث حول سبب تطور المجتمعات المعقدة”، لكنهم لم يأتوا بـِــ”نظريات موازية من أجل تفسير انهيار تلك المنظومات”.
وسيستغرق تينتر معظم العقد التالي ليطوّر النظرية التي أصبحت جوهر كتاب “انهيار المجتمعات المعقدة”. تقوم مناقشة تينتر على مقترحين. يقول الأول بأن المجتمعات البشرية تُطوّر التعقيد _أدوار متخصصة وبنى مؤسساتية تنظّم تلك المجتمعات_ بغية حلّ المشاكل. ويؤكد تينتر أننا، لغالبية الوقت منذ تطور الإنسان العاقل (الهوموسابيان)، نظمنا أنفسنا في جماعات صغيرة، مساواتية نسبياً، ومبنية على القرابة. وقد اتسم التاريخ كله منذ ذلك الوقت بـِـ”نزوع يبدو حتمياً نحو مستويات أعلى من التعقيد، التخصص، والسيطرة الاجتماعية السياسية”. أمّا الجماعات الأكبر فيتعين أن تُنظَّم على أساس بنى أكثر رسمية من القرابة وحدها. ظهر “جهاز رئيس” _سلطة وتراتب بيروقراطي ناشئ_ من أجل توزيع الموارد. تطورت الدول، وتطورت معها طبقة حاكمة تولت مهام إدارة “سلطة الإعداد للحرب أو العمل، فرض الضرائب وجمعها، إصدار القوانين ووضعها موضع التنفيذ”. بالنتيجة، نشأت مجتمعات نلاحظ بأنها مشابهة لمجتمعاتنا؛ “مجتمعات كبيرة، لامتجانسة، متمايزة داخلياً، منظمة على أساس طبقات، ومضبوطة، تكون فيها موارد الحفاظ على الحياة غير متوفرة للجميع بصورة متساوية”. وسيلزم ما هو أكثر من تهديد العنف للحفاظ على تماسكها؛ توازن دقيق لمنافع رمزية ومادية يدعوه تينتر “الشرعية”، يتطلب المحافظة عليه بدوره بنى أكثر تعقيداً، ستصبح مع الوقت، ومع ازدياد تراكمها، أقل مرونة، وأكثر هشاشة.
أمّا مقترح تينتر الثاني فمبني على فكرة مستمدة من علماء الاقتصاد الكلاسيكيين في القرن الثامن عشر. التعقيد الاجتماعي، يقول تينتر، عُرضة حتماً لتناقص العائدات الهامشية. بكلمات أخرى، إنه يكلّف أكثر فأكثر، بينما يحقق أرباح أقل فأقل. “إنها حالة ‘أليس في بلاد العجائب’ كلاسيكية؛ تركض أسرع فأسرع من أجل أن تبقى في مكانك”، يقول تينتر. لنأخذ على سبيل المثال روما التي تمكنت، وفقاً لتينتر، من ربح ثروة كبيرة عبر نهب جيرانها، إنما كان مطلوباً منها بعد ذلك أن تحافظ على جيش يزداد حجماً وتكلفة من أجل وقاية الآلة الإمبراطورية من التعطل وحسب؛ إلى أن لم يعد بإمكانها القيام بذلك.
أو لنأخذ حالة تشاكو كانيون التي حيّرت تينتر إلى حد بعيد. في أوج ازدهارها منذ ألف سنة، كانت تشاكو كانيون مركزاً لشبكة جماعات تمتد عبر حوض نهر سان خوان الجاف. الصمود في بيئة قاسية مثل تلك كان يعتمد، من وجهة نظر تينتر، على شبكة معقدة من “علاقات اقتصادية متبادلة” استفادت من التنوع الطبيعي. في السنوات الحارة الجافة، كانت المعاناة من نصيب ساكني التضاريس المنخفضة، في حين كانت الجماعات في المرتفعات الأعلى تحصل على ما يكفي من المطر لزراعة المحاصيل وحصادها. أما في السنوات الأبرد والأكثر رطوبة، فكان العكس يحدث: تُنتج الأراضي المنخفضة أكثر من حاجتها، بينما يتضاءل موسم الزراعة في المرتفعات.
تصاعد التعقيد ليواجه التحدي. ويفترض تينتر أن المركز الإداري في تشاكو كانيون كان قادراً على تنظيم تبادل الموارد بين ما سمّي بـِ الجماعات “المنفصلة” الموجودة على ارتفاعات متباينة، والتي ما كان أي منها لينجو بمعزل عن الأخرى. وكما هو الحال دائماً، أدى حلُّ مشكلة إلى خلق مشاكل جديدة. مع نجاح تشاكو كانيون، ازداد عدد السكان. وتضاعفت الجماعات المنفصلة إلى أن ضعُف التنوع الذي مكّن النظام من العمل “بالتناسب مع قلة ما يمكن توزيعه على كل جماعة تعاني عجزاً ما”، كما يقول تينتر. وبدأت تلك الجماعات تخرج من المنظومة. وخلال القرنين التاليين، هُجرِت تدريجياً البلدات المسوّرة بالحجارة التي تناثرت في حوض سان خوان.
هكذا تسير الأمور. مع بدء تناقص فوائد التعقيد المتزايد باستمرار _الغنائم التي نقلتها الجيوش الرومانية إلى روما أو الحالة الألطف التي يمثلها التكافل الزراعي في حوض سان خوان_ تصبح المجتمعات “عرضة للانهيار”، كما يقول تينتر. وتغدو الضغوط، التي كان من الممكن التعامل معها في حالات أخرى _كوارث طبيعية، احتجاجات شعبية، أوبئة_ مستعصية. حوالي عام 1130 بعد الميلاد، أصاب قحط شديد الصحراء في الجزء الجنوبي الغربي وامتد لنصف قرن بالتزامن مع تدهور تشاكو كانيون. ويحمّل بعض الباحثين القحط مسؤولية هجر المنطقة. أما تينتر فيرى أن القحط لم يكن إلا الضربة القاضية في انحدارٍ كان قد أصبح محتوماً سلفاً. نجت حضارة تشاكو من فترات جفاف ممتدة قبل ذلك. فلماذا تكون هذه حاسمة؟
يُعزا سقوط الحضارة المينوسية (في جزيرة كريت) إلى انفجار بركاني وغزو لاحق من قبل اليونانيين الموكيانيين. بالمقابل، ترافق انهيار حضارة هارابان، التي بقيت في وادي السند قرابة الألف عام قبل أن تهجر مدنها عام 1700 قبل الميلاد، مع تغير مناخي وربما زلزال وغزو، وحالات تفشي مرض معدٍ، كما تقترح آخر الدراسات. أما هجر مدن حضارة المايا الكلاسيكية في السهول الجنوبية في القرن التاسع فيُعزا إلى الحرب، انتفاضة الفلاحين، إزالة الغابات والقحط. لكن، ألم تصمد مجتمعات لا حصر لها أمام هزائم عسكرية، غزوات، وحتى احتلالات وحروب أهلية طويلة الأمد، أو أعادت بناء نفسها بعد زلازل، فيضانات، ومجاعات؟
وحده التعقيد، يقول تينتر، يقدّم تفسيراً ينطبق على كل حالات الانهيار. نمضي في حياتنا، ونعالج المشاكل عند ظهورها. يزداد التعقيد أكثر فأكثر، على نحو تدريجي عادة، من دون أن نلاحظ كم أصبح كلّ شيء هشّاً. ثم تأتي دفعة بسيطة، ويبدأ المجتمع بالتصدّع. وتكون النتيجة “خسارة فادحة وسريعة لمستوى مؤسَّس من التعقيد الاجتماعي السياسي”. من الناحية البشرية، يعني ذلك تفكك الحكومات المركزية وتمزق الامبراطوريات إلى “دول صغيرة قليلة الشأن” تكون غالباً في حالة صراع فيما بينها. تتعطل طرق التجارة، وتُهجر المدن. تضعف الثقافة، تُفقَد المعرفة التكنولوجية، وينخفض تعداد السكان بحدة. “ينكمش العالم على نحو ملحوظ، وعند الأفق يتربّص المجهول”، يكتب تينتر.
في رأي تينتر، لا يمكن لكارثة _حتى حين تكون كارثة فادحة مثل وباء فتاك، اضطراب اجتماعي شامل أو مناخ سريع التغير_ أن تكون كافية وحدها لتسبب انهياراً، فالمجتمعات تُطوّر التعقيد تحديداً من أجل مواجهة مثل تلك التحديات. ويتوقف مدى قرب أي مجتمع موجود حالياً من الانهيار على موقعه في منحنى العائدات المتناقصة.
ينقسم الباحثون في مسألة الانهيار غالباً إلى معسكرين غير ثابتين. يبحث المعسكر الأول بقيادة تينتر عن سرديات كبرى وشروحات تسري على جميع الحالات. أما أفراد المعسكر الثاني فهم أكثر اهتماماً بجزئيات المجتمعات التي يدرسونها. إلا أن القلق إزاء الوباء الحالي يرأب الانقسامات التي تسم هذا الحقل. تشكّك باتريشيا مكاناني، التي تدرّس في جامعة كارولينا الشمالية في تشابل هيل، بفائدة مفهوم الانهيار ذاته، وقد قامت بتحرير مجلد صدر عام 2010 بعنوان “التشكيك بالانهيار”.
تشير مكاناني إلى الفارق بين مجتمعات المايا في السهول الشمالية والسهول الجنوبية خلال الألفية الأولى قبل الميلاد. كانت المنطقة الجنوبية _ما يشكّل اليوم غواتيمالا، بيليز، وأجزاء من جنوب المكسيك_ ذات تراتبية أكثر صرامة، واتسمت بــِ”انعدام مساواة واضح” ونظام ملكي وراثي لم يكن واضحاً بذات القدر في شبه جزيرة يوكاتان في الشمال. وحين حدث قحط مدمر في القرن التاسع، هُجرت مدن السهول الجنوبية، على العكس من مدن الشمال.
لكن مكاناني تنبّه إلى أن ذلك الانهيار الواضح في حضارة المايا في السهول الجنوبية يمكن فهمه على نحو أفضل بوصفه تشتتاً. بالنسبة إلى الطبقات العليا، الذين كانوا كما يبدو أولّ الهاربين، كان ذلك الانهيار بمثابة نهاية العالم، أما غالبية الناس فببساطة “عبروا عن استيائهم بمغادرة المكان”، مهاجرين إلى أمكنة أكثر ملاءمة في الشمال وعلى طول الساحل. ذلك لم يعد بالأمر السهل اليوم؛ “نحن راسخون للغاية ومقيدون إلى الأمكنة”، تقول مكاناني. بغياب إمكانية التشتت، أو تعذر حدوث تغير هيكلي حقيقي نحو توزيع أكثر عدالة للموارد، “ينفجر كلّ شيء، في مرحلة ما. لا بدّ أن يفعل”.
ينتهج بيتر تورشين، الذي يدرّس في جامعة كونيكتيكت، نهج تينتر في اقتراح آلية موحدة عبْرتاريخية تقود إلى الانهيار، رغم أنه أكثر استعداداً من تينتر للإفصاح عن تنبؤات محددة، ومقلقة أحياناً. بالنسبة إلى تورشين، المعيار الرئيسي هو الافتقار إلى “المرونة الاجتماعية”؛ قدرة المجتمع على التعاون والعمل بصورة جماعية من أجل تحقيق أهداف مشتركة.
في آخر مرة تحدثتُ فيها مع تورشين نهاية الصيف، كان، مع أكثر من مليوني شخص آخرين، بلا كهرباء إثر إعصار إسياس الاستوائي. وكان الاتصال بالانترنت عنده مقطوعاً لأيام. “ثمة الكثير من الجوانب المثيرة للسخرية”، يقول تورشين، “في دراستنا للأزمات التاريخية أثناء مراقبة أزمات جديدة تدور وتحتدم حولنا”. وبما أنه ولِد في الاتحاد السوفيتي، فإن تورشين مدرك جيداً لعدم الاستقرار الجوهري حتى في أكثر النظم ثباتاً ظاهرياً. “عندما هاجرتُ من اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكي عام “1977، يقول تورشين، “لم يكن أحد يتخيل أن البلد سيتمزق إلى الأجزاء المكونة له. لكنه فعل”.
لم يكن تورشين الوحيد الذي يشعر بالقلق. يقول إيريك إتش كلاين الذي يدرّس في جامعة جورج واشنطن: “في عام 1177 قبل الميلاد _العام الذي انهارت فيه الحضارة_”، تفتت مجتمعات العصر البرونزي الأخير عبر أوروبا وغرب آسيا تحت وطأة سلسلة من الضغوطات شملت كوارث طبيعية _زلازل وقحط_ مجاعة، نزاع سياسي، هجرة جماعية وإغلاق طرق التجارة. إن أياً من هذه العوامل ما كان ليقدر وحده على التسبب بمثل هذا التفكك واسع الانتشار، لكنها معاً شكّلت “عاصفة مثالية” قادرة على الإطاحة بمجتمعات عدة في الآن ذاته. اليوم، يقول كلين، “تتوفر لدينا تقريباً كل العوارض التي كانت موجودة في العصر البرونزي، مضافاً إليها عنصر آخر” هو الوباء. الانهيار “هو في الحقيقة مسألة توقيت. ويقلقني أن الآن قد يكون هو أوانه”، أخبرني كلين.
في كتابه “انهيار المجتمعات المعقدة”، يطرح تينتر فكرة تشاطر المخاوف التي أثارتها باتريشيا مكاناني: “العالم اليوم ممتلئ”. تشغل المجتمعات المعقدة كل المناطق المأهولة في الكوكب. ما من مهرب. ويعني هذا بدوره أن الانهيار “إن حدث مرة أخرى، وحين يحدث مرة أخرى، سيكون هذه المرة شاملاً، يقول تينتر. مصائرنا مترابطة. “لم يعد ممكناً أن تنهار أي دولة بمفردها. ستتفكك حضارة العالم ككل”. عندما سألته عن هذا الأمر، بدا تينتر، الذي يكون عادة رصيناً، رصيناً جداً الفعل. إذا حدث، سوف يكون “أسوأ كارثة في التاريخ”. السعي للكفاءة، كتب تينتر مؤخراً، جلب مستويات غير مسبوقة من التعقيد: “نظام إنتاج عالمي موسع، شحن بضائع، تصنيع وبيع بالتجزئة”، تُصنّع السلع في أحد أجزاء العالم لتلبي المتطلبات الفورية في جزء آخر منه، وتسلَّم عند الحاجة فقط. سرعة هذا النظام مدوخة، لكن كذلك هي نقاط ضعفه.
وباء كورونا “كما هو واضح، يزيد الكلفة الإجمالية لكون مجتمعنا ما هو عليه”، يقول تينتر. عندما أُغلقت المصانع في الصين، تعثرت عمليات التسليم عند الطلب. أو، على حد تعبير تينتر، المنتجات “لم تصنّع عند الطلب، لم تُشحن عند الطلب، ولم تكن متوفرة عند الطلب والحاجة إليها”. وتزاحمت البلدان للحصول على إمدادات محدودة من الكمامات والمعدات الطبية. بالتالي، إن إخفاقاً أكثر اتساعاً في سلاسل الإمداد الهشة قد يعني أن الوقود، الطعام، وغيرها من الحاجات الأساسية، سوف تتوقف عن الوصول إلى المدن. إن فشلاً قصير الأمد في النظام المالي، يتوجس تينتر، قد يكون وحده كافياً لجعل سلاسل الإمداد تتعثر وصولاً إلى توقفها.
لاحظ تينتر مؤخراً، كما أخبرني، ازدياداً واضحاً في اتصالات الصحفيين: على حين غرّة، لم تعد دراسة الانهيار المجتمعي مسعىً أكاديمياً بحتاً. ورغم أن الحذر العلمي قد يمنع تينتر من لعب دور العرّاف، لكنه يستذكر انطباعه عندما كان يكتب “انهيار المجتمعات المعقدة”: “كان من الواضح جداً أن ما كنت ألاحظه حول المسارات التاريخية لم يكن متعلقاً بالماضي وحسب”.
من الصعب أيضاً ألا نقرأ كتاب تينتر بوصفه تنبؤاً بإمكانية تدهور البلدان التي تستمر الموارد فيها بالتناقص في كل قطاع تقريباً ما عدا القطاع العسكري، السجون، والشرطة. كلما ازداد التضييق على السكان، ازدادت الحصة التي “يجب أن تُخصَّص للتشريع أو التعسف”، يحذّر تينتر. وقد كتب عام 1988: “مع انخفاض الموارد المخصصة للإعانات، لا بدّ للموارد المخصصة للسيطرة أن ترتفع”. في هذا المجال، يذكّرنا تينتر بالرومان الذين علقوا في مصيدة تخصيص حصة أكبر فأكبر من موارد إمبراطورتيهم للدفاع عنها، حتى مع استمرار توسعها، مطاردين أعداء أبعد فأبعد، إلى أن ظهر الأعداء يوماً على أبواب المدينة.
الصورة الكلية التي يرسمها كتاب تينتر صورة مأساوية. إن إبداعنا بالذات، قدرتنا الاستثنائية كجنس بشري على تنظيم أنفسنا من أجل حلّ المشاكل بصورة جماعية، هو ما يودي بنا إلى فخ لا يمكن الهروب منه. التعقيد، كما يقول تينتر، “غدّار”. “إنه يتصاعد بخطوات صغيرة، تبدو كلٌّ منها مناسبة في وقتها”. ثم يبدأ العالم بالانهيار، ونتساءل كيف وصلنا إلى هذا الحد.
على الرغم من هذا، ثمة طريقة أخرى للنظر إلى الأمر. ربما لا يكون الانهيار في الواقع “شيئاً”. ربما هو، كفكرة، نتاج زمنه، بقايا حربٍ باردة تخطت مدة صلاحيتها، أو تأثيرٌ أكاديمي تموّجي لتخوّف من تغير مناخي، أو حلقة تغذية راجعة ناتجة عن مزيج من الاثنين. خلال السنوات العشر الأخيرة، كان عدد متزايد من الباحثين، مثل مكاناني، يشككون بفكرة الانهيار برمتها. وكانت الأصوات المنتقدِة في غالبيتها تأتي من النساء _إغراء دراما الانهيار المباغتة والعنيفة كان دوماً “شيئاً يخص الرجال”، كما تقول ديبورا نيكولز من كلية دارتموث_ ومن باحثين من السكان الأصليين، ومن الذين يولون اهتمامهم للحكايات التي يرويها السكان الأصليون عن مجتمعاتهم. عندما يُستبعد هؤلاء، يمكن للانهيار ببساطة أن يعني الانمحاء؛ طريقة ملائمة لإخفاء عنف الغزو، كما تلاحظ سارة باركاك التي تدرّس في جامعة ألاباما في بِرمنجهام. لا يعني هذا أن المدن التي كانت يوماً كثيفة السكان لم تُهجر قط، أو أن ذلك التبسيط الاجتماعي العجول الذي شخّصه تينتر لم يحدث باستمرار؛ بل يعني فقط أننا إذا أولينا اهتمامنا لتجربة الناس المُعاشة، وليس للأفكار المجردة التي يمليها سجل أثري بالغ التشتت وحسب، فستظهر صورة مختلفة.
قد يعود جزء من المسألة إلى أن فهم تينتر للمجتمعات على أنها “كيانات حلّ مشاكل” يُخفي بقدر ما يُظهر. على سبيل المثال، نشأت عبودية المزارع من أجل حلّ المشكلة التي واجهت طبقة ملّاك الأراضي البيض: يتطلب إنتاج سلع زراعية كالسكر والقطن الكثير من العمل الشاق. إلا أن تلك المشكلة لا علاقة لها بمشاكل البشر الذين يستعبدهم أولئك الملّاك. أيٌّ من الطرفين يُعتبر “مجتمع”؟
كذلك، من الملاحظ أن إجماليّ ثروة بعض المليارديرات قد ارتفع منذ بداية الوباء، في حين ازداد عدد الذين يعانون الجوع في مناطق شتّى من العالم. أيّاً تكن المشاكل التي يعاني منها أولئك المليارديرات، فهي لن تكون بالتأكيد مماثلة لمشاكل الذين يعانون الجوع. بالتالي، التأكيد على أنه لا ينبغي السماح بخلط الفئتين معاً، يضع ليس “المجتمع” وحسب، بل “الانهيار” كذلك في بؤرة تركيز مختلفة. إذا لم تكن المجتمعات في الحقيقة كيانات حل مشاكل أحادية، بل مجموعة من التناقضات المضطربة ومواضع صراعٍ مستمر، فلن يكون وجودها عندئذ مسألة “كل شيء أو لا شيء”. لا يبدو الانهيار إذاً “نهاية”، بل واقعاً عانى البعض منه سابقاً _في عنبر سفينة عبيد، مثلاً، أو في مسير قسري طويل من أراضي أجدادهم إلى محميات بعيدة _ ونجوا.
“ماذا ستفعل إن كنتَ لا تزال هنا بعد أن تكون قصة الإخفاق قد كُتبت؟”، يتساءل الباحث الأمريكي الأصلي مايكل ويلكوكس الذي يدرّس في جامعة ستانفورد. قد تكون مدينتا بالينكي وتيكال في حالة دمار تام في الأدغال، مصادرَ ثابتة لدولارات السياح، إلا أن جماعات المايا لا تزال تقطن المنطقة، ولغاتهم، البعيدة كل البعد عن الاندثار، لا تزال تُسمع هذه الأيام في أحياء المهاجرين في لوس أنجلوس مثلاً. وقد تكون شعوب بويبلو القديمة هجرت البيوت الكبيرة في تشاكو كانيون في وقت ما من القرن الثاني عشر، لكن السلالة المنحدرة منهم تمكنت من طرد الإسبان في القرن السابع عشر، لأكثر من عقد بأية حال. أما شعوب النافاهو، بالقرب منهم، فقد نجت من حروب الإبادة الجماعية في القرن التاسع عشر، فورة اليوارنيوم في القرن العشرين وجائحة السرطان التي خلفتها في أعقابها، وهي تواجه اليوم كوفيد-19 الذي ضرب أمة نافاهو بأشدّ مما فعل بنيويورك.
لقد أعطى الوباء الحالي معظمنا فكرة عما يحدث عندما يخفق مجتمع ما في مجابهة التحديات التي تواجهه، وعندما تُعنى الفئات التي تحكمه بمشاكلها الخاصة وحسب. وستعطينا أزمة المناخ التي تستمر بالتكّشف أسباب إضافية للذعر والكدر. بعض المؤسسات في العالم تنهار اليوم دون شك. لكن، كما يقول ويلكوكس، “الانهيارات تحدث طوال الوقت”. لا يعني هذا الاستخفاف بالمعاناة التي يسببها الانهيار، أو بالغضب الذي ينبغي أن يثيره، إنما الإشارةَ إلى أن الخطر الحقيقي يأتي من توهمنا أننا نستطيع أن نستمرّ بالعيش على المنوال ذاته الذي عشنا به، أو أن الماضي كان أكثر استقراراً من الحاضر.
إذا أغمضنا أعيننا وفتحناها مرة أخرى، من شأن كلّ التفكك المرحلي الذي يعترض تاريخنا بين حين وآخر _كل تلك الآثار المتداعية_ أن يأخذ بالتلاشي، وسيتركز الانتباه على شيء آخر: المراوغة والعناد، والقدرة على التكيف؛ أكثر السمات البشرية قوة وجوهرية. ربما لا تكون قدرتنا على الاتحاد معاً، على الاستجابة بصورة خلّاقة للظروف الجديدة والصعبة، فخاً مأساوياً مخفيّاً، كما يصوره تينتر؛ حكاية تنتهي دوماً بتعقيد متعنّت وانهيار. ربما تكون أفضلَ ما نجيد عمله. فعندما لا تفلح طريقة ما، نجرّب طريقة أخرى. وعندما يخفق نظام ما، نبني نظاماً آخر. نسعى جاهدين لنقوم بالأشياء على نحو مختلف، ونمضي قدماً. وكما هو الحال دائماً، ما من خيار آخر لدينا.
المصدر: مجلة نيويورك تايمز/الجمهورية. نت