تسيّر بكين قوافلها وفرقها الطبية مصحوبة بتغطية إعلامية كبيرة، لتسليط الضوء على نشاط المارد الصيني “الإنساني” في دول أوروبية، لم تجد من يساعدها من شقيقاتها في الاتحاد، الذي انغلق على نفسه، كحال الحليف الأكبر أمريكا، فالكل مشغول بمحاربة فيروس “كورونا” (كوفيد- 19)، الذي اقترب من وداع الصين وحط رحاله في دول العالم.
شهدت أوروبا تراخيًا في اتباع إجراءات الوقاية من الفيروس، وصلت إلى حد التعنت واتخاذ قرارات ارتجالية بعدم المواجهة، كما فعلت بريطانيا التي يعيش كبار ساستها الآن صراعًا مع “كورونا” في أجسامهم ابتداء من الملكة، إليزابيث الثانية.
وارتفع عدد الوفيات والمصابين في أوروبا خلال آذار الحالي، في مقابل حالة من اليأس والعجز، أبدتها دول أوروبية أمام “كورونا”، ما فتح الباب واسعًا للصين، ومن خلفها روسيا، للتدخل، لتسجيل نقاط على جدار التنافس العالمي.
دبلوماسية ناعمة
على الرغم من أن جائحة “كورونا” بدأت من الصين، ووسط الانتقادات المتكررة بشأن محاولاتها في البداية للتغطية على أخبار انتشار الفيروس في ووهان، وفشلها في السيطرة على الأمر، تعتزم الصين حاليًا تزويد الاتحاد الأوروبي بأكثر من مليوني قناع تنفسي و50 ألف جهاز اختبار سريع للفيروس، وفق رئيسة المفوضية الأوروبية، أورزولا فون دير لاين، التي كانت تتحدث عبر تسجيل مصور في موقع “تويتر”.
ولا يقتصر دور تقديم المساعدات لبعض الدول الأوروبية حاليًا على الصين، فقد وجدت روسيا لنفسها مكانًا في هذا المعسكر، وبدأت بمد إيطاليا بمجموعات من الخبراء العسكريين لتقديم المساعدات بالشأن الطبي، في جو من الاستعراض تحتفل به وكالات الأنباء الروسية.
مدير وحدة دراسة السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور عبد الله تركماني، يرى في حديث لعنب بلدي، أن ما يحصل الآن في أزمة “كورونا” وما سيحصل لاحقًا ليس بمعزل عما كان قبله، في إشارة إلى التنافس والصراع بين الصين وأمريكا.
والآن تدير الصين المرحلة بحنكة وذكاء، وفق تركماني، الذي وصف تصرفات الصين تجاه دول أوروبية بالدبلوماسية الناعمة، كإرسالها آلاف الأطنان من المواد الطبية إلى إيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول.
وأضاف تركماني أن هذه الدبلوماسية ستفتح أمام الصين الطريق للمزيد، لكي تتبوأ المركز الأول الذي تطمح إليه منذ سنوات، لافتًا إلى أن الحديث عن هذا الأمر ما زال مبكرًا، مؤكًدا أن بكين تتقدم في هذا الاتجاه.
أما عن التحرك الروسي، وما إذا كان يسير بتخطيط مشترك مع الصين، فاعتبر تركماني، أنه ليس بالضرورة أن يكون التحرك الروسي مرتبطًا مع ما تقوم به الصين، لافتًا إلى أنه يأتي أيضًا في إطار استخدام الدبلوماسية الناعمة، من أجل اكتساب شرعية دولية أكثر، لأن هذا التحرك، وفق قوله، يأتي في الوقت الذي تنشدّ فيه أمريكا والدول الأوروبية الكبيرة على نفسها، وتترك دولًا أوروبية أخرى تواجه مصيرها بمفردها.
استعراض إعلامي
من جهته، اعتبر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس والخبير والباحث في الجيوبولوتيك، البروفسور خطار أبو دياب، في حديث إلى عنب بلدي، أن الصين تمارس نوعًا من الاستعراض الإعلامي عبر تقديمها المساعدات، مشيرًا إلى أنها تتقن هذا الدور. في حين وصف الدور الروسي في هذا الخصوص بالـمحدود والمقتصر على الاستعراضات العسكرية.
وضرب مثالًا ملموسًا، على هذا الاستعراض، قائلًا إن الاتحاد الأوروبي أرسل في بداية انتشار الفيروس في الصين، مساعدات طارئة بقيمة 25 ألف طن، من اللوازم والمعدات الطبية، حيث لم تكن هناك كاميرات لتوظيف الحدث إعلاميًا، بينما عندما قامت الصين وروسيا وكوبا بهذه الخطوة تجاه إيطاليا، أرسلت فرقًا إعلامية لاستثمار الحدث.
وأردف أبو دياب أن أزمة “كورونا” خلقت تنافسًا وصراعًا جيوسياسيًا، بدأ يرتسم أكثر فأكثر، وفق تعبيره.
ولفت إلى أن الصين تسجل الآن نقاطًا في هذا الصراع، لأنها تعتبر مصنع العالم، وتنتج أكثر من غيرها، خاصة أن هناك دولًا أوروبية أفرغت مستودعاتها من الكمامات، والآن تطلبها وتشتريها من الصين، مشيرًا إلى أن عدم الكفاية الاستراتيجية في أوروبا من اللوازم الطبية أدى إلى الاتكال على الصين، التي تقدمت، بينما تأخر الاتحاد الأوروبي الذي لم تكن لديه سياسات واستراتيجية صحية، وفق وصف أبو دياب.
نظام جديد
في هذا الإطار، اتفق تركماني وأبو دياب، على أن العالم يشهد مخاضًا بسبب أزمة “كورونا”، وأوضح تركماني أن هناك تحولًا كبيرًا في العلاقات الدولية وفي النظام الدولي، مشبهًا الحالة اليوم بما كانت عليه الأوضاع في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ نتجت عنها ولادة تداعيات، أثرت في مجمل جوانب الحياة، كالاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلاقات الدولية وكل شيء، وفق قوله.
في حين أكد أبو دياب أن الدور الصيني آخذ في الصعود، متوقعًا حدوث صراع ما بين الصين والولايات المتحدة على صدارة العالم.
وقال، “العالم يرتسم أمامنا، ويشهد مخاضًا، يمكن تسميته بـ(الفوضى الاستراتيجية)”.
وأضاف أن هذا المخاض كان قبل “كورونا” وسيبقى بعدها، حتى يتم الوصول إلى بناء نظام عالمي أكثر استقرارًا.
لكنه استدرك بالقول، إن السبق في المجال الطبي أو التكنولوجي لا يعني الكثير، معتبرًا أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، مع التأكيد على تراجعها، في ظل إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي عطلت، وفق أبو دياب، الكثير من التحالفات الأمريكية، وجعلتها هشة، مشيرًا إلى أن كل هذا التخبط الأمريكي لا يعني أن الصين بإمكانها إنتاج القيادة البديلة، وفق تعبيره.
سوريا في موازين “كورونا”
لم تكتفِ الصين وروسيا بركوب أمواج أزمة “كورونا” واستثمارها من بوابة المساعدات الطبية للدول الأوروبية وغيرها، فقد سعت بكين وموسكو مؤخرًا لجعل هذه الأزمة قاعدة للمطالبة برفع العقوبات المفروضة على أنظمة تدعمها، انطلاقًا من “الواجب الإنساني” العالمي لمكافحة انتشار الفيروس.
وقرأ تركماني في هذه المطالبة استغلالًا روسيًا لأزمة “كورونا” لتمرير ملف وقف العقوبات على النظام السوري، معتبرًا أن الصين وروسيا لهما مواقف متشابهة من الناحية السياسية فيما يخص الملف السوري.
في حين وصف أبو دياب المطالبة الروسية والصينية بـ”المزايدات السياسية”، موضحًا أن هذه العقوبات هي ليست من الأمم المتحدة، بل هي عقوبات أمريكية وأوروبية، ولذلك ستبقى هذه المطالبة “إنشائية”، ولن يكون لها مفعول عملي وميداني.
ولفت إلى أن هذه المطالبة تهدف أيضًا إلى تبرير عدم إرسال المساعدات الدولية إلى إدلب، ولكي تكون مشاريع الاستجابة الأممية محصورة في النظام السوري.
نشأ الفيروس في ووهان الصينية، وأبلغت منظمة الصحة العالمية عنه في 31 من كانون الأول 2019، وبينما تقول الصين إنها لا تسجل إصابات محلية في الفيروس منذ الأسبوع الماضي، وصل عدد الإصابات حول العالم إلى أكثر من 512 ألف إصابة، بحسب أرقام منظمة الصحة، وتجاوز عدد الإصابات في إيطاليا والولايات المتحدة عدد الإصابات المعلنة في الصين، بينما تلحقها دول أوروبية بزيادة متسارعة بعدد الحالات كإسبانيا وفرنسا وألمانيا.
المصدر: عنب بلدي