لم تكن المساحة التي منحها الرئيسان الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين لبحث الأزمة السورية خلال محادثاتهما في جنيف، بحجم توقعات كثيرين، والأهم أنها لم تكن بحجم المأساة المستمرة التي يعيشها الشعب السوري منذ أكثر من عشر سنوات. وإذ لا يمكن تجاهل حقيقة تراجع الاهتمام الدولي، وقبله الإقليمي، بالتطورات السورية، إلا أن المرور السريع على الملف السوري خلال قمة بين زعيمي أكبر قوتين نوويتين عالمياً، مع جدول مكتظ بملفات لا تعد لا تحصى، لا يعني أن مصير سوريا بات خارج دائرة الاهتمام الأميركي، ولا يزال هذا الملف حاضراً لدى البيت الأبيض، على الأقل بما يتوافق مع المصالح، ويخدم السياسات الأميركية. وفي سياق الحديث حول سوريا مع بوتين يحمل تركيز بايدن على المساعدات الإنسانية في طياته اتهاماً لروسيا بمسؤوليتها عن تفاقم الوضع الإنساني، حين عرقلت عمل الآلية الدولية، وتصر على إيصال المساعدات عبر دمشق، أي “عبر النظام السوري”. مع ذلك كله، وحتى لو لم تكن سوريا حاضرة ولا بأي شكل خلال القمة، فإنها ستكون حاضرة بقوة خلال تنفيذ تفاهمات بايدن – بوتين حول إطلاق محادثات بشأن الحد من التسلح، والاستقرار الاستراتيجي.
شكلت المحادثات مع الرئيس بايدن أهمية خاصة بالنسبة للرئيس بوتين، الذي كان حريصاً على انعقادها لإيقاف التدهور غير المسبوق في علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، والتأثير الخطير لهذا التدهور على العلاقات السياسية والاقتصادية بصورة أكبر مع “شركاء رئيسيين” في مقدمتهم دول الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق كانت قضية التسلح الاستراتيجي على رأس قائمة الأولويات الروسية خلال القمة. إذ تخشى روسيا من تجدد سباق التسلح مع ما سيحمله لها من أعباء اقتصادية، فضلا عن تداعياته السياسية على علاقاتها مع دول العالم، والمخاوف من عودة حالة الفرز للقوى عالمياً ضمن “أحلاف”، ما يهدد بحرمان الكرملين من الثمار السياسية والاقتصادية الملموسة التي يجنيها من علاقات إيجابية نجح في بنائها مع دول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى محسوبة على قائمة (حلفاء واشنطن).
بالنسبة للرئيس الأميركي، كانت ملفات التسلح الإستراتيجي رئيسية أيضاً خلال محادثاته مع بوتين. إلا أنه كان حريصاً منذ البداية على تهيئة أجواء تضعه خلال الحديث مع الرئيس الروسي في موقع “الأقوى”، وتذكره بأن “الولايات المتحدة لا تزال صاحبة الكلمة في أوروبا والعالم”. إذ شارك الرئيس الأميركي قبل القمة مع بوتين في قمة “مجموعة السبع” التي انتقد قادتها السياسات الروسية واستخدام موسكو المواد السامة. وتحدث خلالها بايدن عن الدور الروسي في سوريا، وقال إن “موسكو قضمت في سوريا أكثر مما تستطيع مضغه”. وشارك كذلك في قمة “الولايات المتحدة-الاتحاد الأوروبي” التي تم خلالها الاتفاق على حماية الديموقراطية من روسيا والصين، فضلا عن مشاركته في قمة الناتو.
كانت سوريا حاضرة فعليا في جميع اللقاءات والقمم التي شارك فيها الرئيس الأميركي جو بايدن، بما في ذلك خلال قمته مع بوتين، الذي لم يُشر إلى أنه تناول مع نظيره الأميركي الملف السوري. وعلى الجانب الآخر تشي تصريحات بايدن أنه هو من بادر وطرح هذا الملف خلال القمة مع بوتين، حين قال إن “الرئيس الروسي اشار إلى أنه مستعد للمساعدة في أفغانستان، وفي الملف النووي الإيراني”، وأضاف بايدن بعد ذلك: “في المقابل أخبرناه (لبوتين )بما نريد فعله في ما يتعلق بإحلال بعض الاستقرار و الأمن الاقتصادي أو الأمن المادي لشعب سوريا وليبيا “. وقال ايضاً إن استمرار المشاكل مع النظام السوري سببها انتهاكه للمعايير الدولية، وأكد أنه “لا يمكن الوثوق به (بالأسد)”.
رأى كثيرون في تناول الرئيس الأميركي ملف المساعدات الإنسانية للسوريين، وتجاهله القضايا الأخرى المتصلة بالمشهد السوري ، موقف لا يتناسب مع الآمال التي علقها كثيرون على موقف أميركي أكثر دقة وحزماً في الشأن السوري. إلا أن الولايات المتحدة تنطلق في أي خطوات من مصالحها أولا وأهداف سياساتها. ومن غير المستبعد أن بايدن قرر التركيز على ملف المساعدات الإنسانية دون غيره في هذه المرحلة لأسباب عديدة ، منها أن طرحه أي قضايا أخرى يعني استعداد الولايات المتحدة لتوسيع تعاونها مع روسيا في سوريا أكثر من مجرد “قنوات اتصال بين العسكريين لتفادي التصادم خلال العمليات في سوريا”. فضلا عن ذلك ينطوي حديثه بصورة مباشرة مع بوتين حول الوضع الإنساني في سوريا على اتهام ضمني لروسيا بالمسؤولية عن تفاقم معاناة ملايين السوريين، حين استخدمت الفيتو ضد تمديد عمل الآلية الدولية، وتسببت بإغلاق 3 من أصل 4 معابر إنسانية، كانوا يحصلون عبرها على المساعدات الرئيسية.
وبينما ذهب البعض إلى تفسير موقف بايدن على أنه تمهيد لتوسيع التعاون مع روسيا في الملف السوري، مقابل دور روسي في إعادة إيران لاستئناف العمل بالاتفاق حول برنامجها النووي. جاءت تصريحات جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، لتضع النقاط على الحروف في هذا الشأن، وقال في إيجاز صحافي بعد يوم على قمة بايدن – بوتين إن “الرئيس بايدن أشار (لبوتين) إلى أن هناك الملايين من الجياع والمحتاجين في شمال شرق وشمال غرب سوريا” وأبلغ بايدن، بوتين أن “وجود ممرات إنسانية تديرها الأمم المتحدة ضروري، وخاصة تلك الموجودة الآن ويجب تجديدها في تموز/يوليو، وهو أمر مهم للغاية لمساعدة المحتاجين”. واضح من هذه التصريحات أن “التعاون” الذي تريده الولايات المتحدة مع روسيا، بأن لا تعرقل قرار تمديد عمل آخر معبر إنساني ضمن آلية المساعدات الدولية، وأن تكف عن استخدام الفيتو ضد قرار تمديد عمل تلك الآلية.
بعيداً عن ملف المساعدات الإنسانية يبدو أن الوضع في سوريا سيحافظ على مكانته المحورية في المحادثات الأميركية-الروسية، لاسيما المفاوضات حول قضايا الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي. إذ تحولت سوريا عمليا إلى “قاعدة استراتيجية”، لاسيما بعد أن تم توسيع مدرج قاعدة حميميم الجوية وتأهيله لهبوط قاذفات استراتيجية، اي القادرة على حمل صواريخ نووية. كما قامت روسيا بتوسيع قاعدة طرطوس البحرية لتصبح قادرة على استقبال قطع حربية كبيرة، بما في ذلك غواصات نووية، مع إمكانية بقائها لفترة طويلة هنا. هذا كله يشكل مصدر تهديد مباشر للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، ويحد من تحركات وهيمنة الأسطول السادس على المتوسط، ويهدد القواعد البحرية للقوات الأميركية وقوات الناتو على الساحل الأوروبي على المتوسط. وطبيعي أن هذا الوضع لا يرضي واشنطن، وستعمل على بحث “ترتيبات سورية” في سياق مفاوضاتها مع الروس حول قضايا التسلح، والأكيد أنها لن تقبل ببقاء الوضع الراهن على حاله، إلا ضمن اتفاقيات كبرى. لهذا سيبقى مصير سوريا على سلم الأولويات الأميركية، لضبط التمدد الروسي عبرها، وفي سياقه قد تضطر واشنطن لخطوات إضافية تطاول مباشرة نظام الأسد، طالما بقي ضامناً للوجود العسكري الروسي في سوريا.
المصدر: المدن