خلال أيام قليلة، في النصف الثاني من شهر أبريل/ نيسان الماضي، فقدت سورية أربعة من رموزها الوطنية المشهود لهم بالإلتزام والتضحية والعطاء والمصداقية، ولا شك أن هؤلاء خسارة كبرى للعمل الوطني، وللقضية السورية التي تمر بمرحلة هي الأخطر في عمرها، لما يمثلون من فكر جامع بين الطيف السوري.
كشف رحيل هؤلاء عن عدة جوانب قصور مهمة يجب الوقوف عند بعضها، في هذه العجالة، والحيز الصغير.
1_ البنية النفسية والسلوكية، لعموم السوريين، التي لم تحتف بهؤلاء وتعطيهم ما يستحقون من مكانة وتكريم إلا عندما داهمهم المرض اللعين، وبعد رحيلهم، وغيابهم، وذكر محاسنهم، والتجاوز عن سيئاتهم التي كانت في حياتهم محل انتقاد وتضخيم، وحتى حال عن أن يأخذوا فرصتهم كاملة بما يليق بهم، وبتضحياتهم، وكأن قدرنا، مع كل رحيل موجع وفاجع، أن نستذكر محاسن موتانا، ونهيل التراب على أنفسنا، بعد أن نخسر، وللأبد، من نكتشف أهميتهم ودورهم في حياتنا.
2_ غياب المؤسساتية التي تحفظ الذاكرة الوطنية، باعتبارهم جزءً مهمًا من تاريخنا الوطني، والنضالي، الممتد لعقود خلت، وإن كان ذلك مفهومًا، ومقبولًا، حتى سنوات مضت فإنه اليوم لم يعد مبررًا.
فباستثناء شخصيات فكرية قليلة أغنت حياتنا الثقافية والسياسية، رحل العشرات دون احتفاء يليق بهم، وهذه دعوة صادقة ليتكفل بالأمر، ويقوم بهذا الواجب، المشتغلين بهذا الشأن، وهم كثر.
3_ إن كان هؤلاء مثلوا سيرة وطنية كفاحية فإن الأمر لم يخل من بعض “الغيرية” التي تعود مرجعيتها إلى شلل وجماعات فكرية، لم يكن بعضها سعيدًا لهذا الإحتفاء والتقدير الذي ناله الراحلون (ميشيل كيلو_ حبيب عيسى_ تيسير حاج حسين_ محمد خليفة) في (قروية) مخجلة تكشف جوانب قصور في وعينا الوطني، وإدراكنا الهش، والذي ينم عن أن السنوات الماضية، في عشرية الثورة، لم تحدث تغييرًا كبيرًا، في ذهنيتنا، مطلوبًا وبإلحاح.
4_ حالة من التعالي والفوقية تجسدت بعدم الإكتراث برحيلهم، أو برحيل بعضهم، أو حتى المجاملة في عزائهم، مرده لعصبيات، وتقييمات سطحية، غارقة في الدوران حول الذات، ونكران الآخرين وأدوارهم، لأن مبتدأ العالم ومنتهاه عندهم.
بكل الأحوال، هؤلاء ليسوا أول من رحلوا عن دنيانا، وينطبق عليهم مانقول، وما نسلط الضوء عليه، فلقد سبقهم العشرات، بل المئات، وربما البعض طواهم النسيان، ولا يتذكرهم إلا القلة القليلة من المخلصين، والذين يتمتعون بذاكرة وطنية حية، جامعة، نحن بأمس الحاجة إليها.
طبعًا، ما نقوله ليس بكائية لاستدرار العواطف، وباعتباري من ذوي أحد من فقدناهم، فلاشك أن الغالبية العظمى من شعبنا بكتهم، وعبرت عن حزنها العميق على فقدانهم، كأفراد أو شخصيات نبيلة، تقديرًا وإحساسًا بالحاجة لأدوارهم، وأماكنهم، التي ستظل شاغرة حينًا طويلاً من الوقت، وما ذلك إلا تعبيرًا فطريًا صادقًا وأصيلًا، تكرر مرارًا، يتجاوز كل ما أشرنا إليه، وهو حقيقةً يخص تحديدًا بعض النخبة، أو مدعيها.
ممن رحلوا، كما أشرت، محمد خليفة، الذي سلطت، الأضواء على تاريخه الطويل والناصع، في أربع مقالات نشرت، ومعظمه مجهول للكثيرين، في جانبه العربي(فلسطين والجزائر ومصر) إضافة بالطبع للجانب السوري، الذي عرفته مناهضًا لنظام القتل والإجرام، منذ ريعان شبابه، وحتى رحيله، دافعًا ثمن مواقفه وجرأته التي أصبح تقييمها في ذمة التاريخ، وعهدة لدى الأجيال القادمة، لتنصفه وتكرمه بما يستحق، وتعطيه قدره ومكانته في سجل التاريخ.
في سيرته، وفي سيرة كل واحد ممن رحلوا، ما يفيد في جوانب عديدة لحاضرنا ومستقبلنا، خصوصًا لأجيالنا القادمة، والذين لا يرون في واقعنا سوى نصف الكأس الفارغ، ويائسون مما آلت إليه أوضاعنا وأحوالنا، ولاشك في أن هؤلاء، وأمثالهم، يشحذون هممهم ويبدلون نظرتهم، بالنظر إلى ما هو سائد، وماطفى على السطح، في واقعنا المتردي، على صعد مختلفة، بعد أن أصبح عنوانًا لاحباطنا وإغراقنا بالفشل والعدمية والتعمية على كل ماهو ناصع وجميل في حياتنا، أو تشويهه على الأقل.
ندعو بكل صدق وحيادية إلى إعادة التفكير بأحوالنا كليًا، وإلى تكريم من يستحقون وهم بيننا، وإعادة ترتيب صفوفنا لإعطاء من هم مؤهلون مواقعهم، والاستفادة من خبراتهم وإمكاناتهم، وتجاربهم، وهم من جربوا في مواقع ومواقف مختلفة، وثبتت مصداقيتهم ونزاهتهم وتفانيهم.
من المعيب جدًا، بعد كل تلك السنوات والتضحيات الجسام، أن يبقى حال الشعب السوري على ماهو عليه، في حالة بحث دائم عن من يمثلونه، ويصرف من الجهد والوقت الكثير دون الاهتداء لإطار محترم، ومحل إجماع، ليصبح همنا إسقاط أطر المعارضة السورية، لاسترداد تمثيلنا المزيف، مثل ماهو دأبنا لإسقاط نظام الطغيان.
رحم الله من رحلوا ومن سبقهم ومن سيلحقهم، فتلك سنن الكون، والله في خلقه، ولكن العظة والعبرة، وما تقتضيه الضرورة، تغيير ذهنيتنا وسلوكنا، انطلاقًا مما رصدناه وأشرنا إليه من نقاط في البداية، والعمل على حفظ تراثنا الوطني الذي جسده أمثال هؤلاء، كل بطريقته وعطائه واجتهاده، بما اهتدى إليه، فأخطأ وأصاب، ولكن بقيت بوصلته تؤشر إلى الهم الوطني الساكن فيه، والمنغمس فيه من رأسه حتى أخمص قدميه.
إن الشعوب العظيمة لا تعتبر الأبطال من شهدائها مجرد ذكرى، إنما تعتبرهم معالم على
طريق انتصاراتها، وشواهد حق على علو هممها، ودلائل صدق على عزمها الذي لا يلين، وكفاحها الذي لا يتوقف في سبيل مثلها العليا.
المصدر: اشراق