أكثرنا غير مصدق لما تركه استخدام إسرائيل العنف ضد انتفاضة الفلسطينيين الأخيرة؛ من صدى في أمريكا. تعودنا في سابق أيامنا على صدى يعكس وحدة إعلامية سياسية صاخبة للتنديد بالفلسطينيين وكل العرب. تعودنا على صدى يعبر عن رفض مطلق وغير متحضر وبعيد عن التفهم الإنساني لشكاوى الفلسطينيين.
هذه المرة اختلف الصدى لأن أموراً وظروفاً تغيرت أو استجدت في العالم عموماً وفي الغرب وفي أمريكا وفي العالم العربي وفي بعض الأوساط اليهودية وبخاصة في إسرائيل. بعض ما تغير أو استجد في أمريكا كان طفيفاً أو متدرجاً، ولم يحظ من جانبنا بالأهمية الواجبة إلا عندما كثرت المؤشرات على خطورة بعضه ثم عندما مست مواقع دولية حساسة. أختار مثلاً بارزاً وهو وصول دونالد ترامب إلى منصب رئيس الجمهورية الأمريكية متخطياً أسوار النظام السياسي الأمريكي وبين نواياه التي حملها معه أو حملته هي إلى البيت الأبيض نية خلخلة النظام الدولي القائم واللعب متهوراً بأقدار البشرية عن طريق إلغاء اتفاقيات دولية كاتفاقية المناخ وفرض اتفاقيات وقرارات «من خارج الصندوق» على صراعات شديدة التعقيد ومنها الصراع مع إيران والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
رأينا بكثير من الألم وخيبة الأمل علامات انحدار الديمقراطية وانكشفت هيمنة وسطوة جماعات ضغط بعينها. رأينا المؤسسات وبعض الممارسات السياسية تتعرض لأعمال تخريب كدنا نثق أنها متعمدة بهدف إضعاف الديمقراطية في أمريكا. هدف عهدناه يتكرر في أوروبا. رأيت كما يرى النائم رئيس الدولة القائد في
تابعنا، وبعضنا تابع بشغف، التغير المتدرج في التركيبة السكانية للمجتمع الأمريكي والتغير التابع له في ميزان القوة السياسية للأقليات في أمريكا. حدث في وقت من الأوقات أن تمتعت الأقلية اليهودية في أمريكا بنفوذ سياسي لم يتناسب وحجمها في المجتمع وهو الاستثناء الذي احتمى ليومنا بمجموعة قواعد مؤسسية أو قانونية أو عرفية تقف على رأسها القواعد المناهضة للعداء للسامية. يبدو لي، وما يزال في مرحلة الترجيح، أن الأقلية اليهودية في أمريكا تعاني هي الأخرى داءً أصاب السياسة والمجتمع في كل أمريكا، ألا وهو الاستقطاب. تعاني أيضا، وهو الأهم، الخوف من أن تفقد استثنائيتها في المجتمع الأمريكي. عندما أقرأ ما كتبه جيفري ساكس وكثيرون غيره من أقطاب اليهود في أعقاب حملة القصف المتوحشة على مدينة غزة وعندما يتأكد لي من متابعاتي للحراك اليهودي في الجامعات أكاد أجزم أن تغييراً مهماً يحدث في توجهات الأجيال الجديدة من أبناء وبنات الأقليات اليهودية.
قيل لي بين ما قيل وهو كثير، قيل إن انحسار موجة القومية العربية وانفراط معظم مؤسساتها ساهما مع عناصر إقليمية ودولية أخرى في رفع الحرج عن المعترضين على انحياز أمريكا الباهظ التكلفة لممارسات إسرائيل. نذكر كيف أن الإعلام الأمريكي دأب خلال معظم مراحل تاريخنا الحديث على وصم القومية، والفكرة العربية عموماً، بأسوأ ما في قاموس الكره والمبالغة. نذكر في الوقت نفسه التبجيل الذي حصلت عليه القومية اليهودية. قيل إن انحسار القومية العربية سوف يبتعد بالشعوب والحكومات العربية عن الصراع مع إسرائيل ليصبح مجرد نزاع على أرض بين فلسطينيين ويهود. وهكذا صار بالفعل كما كشفت تطورات حرب إسرائيل ضد كل الفلسطينيين خلال الأيام الماضية. كشفت عن شيء آخر.
نقرأ رغبة عامة لدى إعلاميين ورجال ونساء سياسة وعلماء علاقات دولية ودبلوماسيين متقاعدين، تحتوي الرغبة على دعوة عاجلة للبحث عن حل سياسي للنزاع. قرأت لمن يدعو الحكومة المصرية إلى الانتقال فور الانتهاء من مساعي الهدنة إلى الانخراط في مفاوضات للتسوية الشاملة. كلام كبير. كلمتان أسمعهما من أصدقائي العراقيين تعليقاً على وعود وجهود لحل أو تسوية أزمة شديدة التعقيد. كدت في الأيام الأخيرة وعلى ضوء معرفتي بطموحات وصحة ونوايا الرئيس بايدن، وعلى ضوء خبرتي بالشؤون العربية والانقسامات السائدة في داخل معظم الأقطار وبين بعضها والبعض الآخر، وعلى ضوء انكشاف الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي والهيمنة اليمينية على الحكم والمجتمع، وعلى ضوء انحسار الغرب والانسحاب الأمريكي من مواقع المواجهة، على ضوء كل هذه الاعتبارات وغيرها مما لا يتسع له المساحة المقررة للمقال أعود فأقول إن ما يصلني من همهمات تؤكد ما ذهبت إليه من قبل وهو أن إسرائيل رتبت نفسها على نزاع متجدد المراحل، تفصل المرحلة عن الأخرى هدنة بعد أخرى لم تنقل الطرفين على مدى سبعين عاماً من الصراع إلى سلام حقيقي، ولن تنقله.
إن التوصل إلى سلام دائم وحقيقي بين الطرفين يكاد يكون، أو هو بالفعل، في حكم المستحيل. وأقول صدقاً وأمانة إن فرص التعايش السلمي بين الطرفين ضئيلة للغاية سواء تعايشا في دولة واحدة أو في دولتين تطل الواحدة على الأخرى، لن نراهن على شعب من الشعبين أن ينسى. اليهود لم ينسوا الوعد المقدس والفلسطينيون لم ولن ينسوا الأرض التي يطلون عليها كل صباح ويسكنها غزاة.
المصدر: الخليج