يُختصر الجيش في مخيال الجزائري بعدد من الجنرالات الأقوياء المتنفذين، ويتعدّاه إلى جهاز المخابرات، أو “السرابس” بالتعبير الدارج، وهي صورةٌ ظلت تدور في الرؤوس منذ فجر الاستقلال (1962)، صورة مهيبة الجانب محترمة، وفيها كثير من الاعتزاز والفخر. ولكن في لحظة فارقة راهنة، تزعزعت الصورة، وغدت مفكّكة ومتشظية، من دون سطوة. وأصبحت اليوم في مرمى حراك تلبس بأقنعة غامضة، وشعارات مناوئة لها، ملخصة في جملتين وحيدتين تلعلعان في كل زقاق وشارع ورصيف: “les généraux à la poubelle” (الجنرالات إلى المزبلة)، و”مخابرات إرهابية”.
لا تعطينا الصورة أكثر من هذا، ولا تمدّنا بالخلفية التي جعلت الشارع، أو بعضه، فجأة يطلق هذين الشعارين، ويفرضهما بقوة صوتا عاليا وعاريا كل جمعة وثلاثاء. أصبح الأمر برمته محيرا ومشوشا ومرتبكا وقاتما، وأصبحت معه فكرة التغاضي عن التأويلات المغرضة التي تتكثف حولها بلا قيمة، حتى الأيدي التي تعبث بها، داخلية وخارجية، عموما أو نخبا، هياكل أو تنظيمات، فرقا ضالة، أو عصابات، قد تكون وراء تشكيل الشعارين ورسم معالمهما وطرق إدامتهما في الشارع، مهما خفت أو تصاعد، إنما هي أيدٍ حقيقية معروفة ومعرّفة بالألف واللام، وليست مجهولة أو شبحية أو هلامية.
.. نشأت المخابرات الجزائرية، مثل أي مخابرات في العالم، في الظلال والخفوت والصمت، وضربت على متونها الأسلاك وستائر الحديد. لم تدوّن سيرتها بالشكل الذي يسمح للمتابعين بفهم طبيعتها، فتلك شروط السرية والخفايا والخبايا، وهو ما تركها دوما هدفا لسهام الأقاويل والتكهنات والتفسيرات، وحتى الافتراءات.
لعبت أدوارا مفصلية ومعقدة وخطيرة في بناء الدولة الجزائرية واستقرارها، أصابت وأخطأت، حاربت وانكسرت، وعملت على التغلغل في مفاصل الدولة وهياكلها، حتى أنها، زمنا، عرفت بأنها “دولة داخل دولة”. وعندما دخلت الجزائر في دوامة الليل الأسود للإرهاب، كان أبطال المخابرات البسطاء، أبناء الشعب يتقدّمون الصفوف الأمامية، يجمعون المعلومات ويقاتلون ويخططون وينفذون ويحمون، بل يستشهدون على أرض باردة، لم يبق من أثر لهم سوى شواهد قبور أو دموع الأهل والأصدقاء، يبكونهم بحرقة بعيدا عن الأعين. وكانت تلك مهمات قاسية شائكة ومؤلمة، موشومة على جسد المؤسسة العسكرية، محفوظة في الذاكرة الجريحة لوطنٍ ظل عقودا يواجه شدائد العواصف والنكبات والأزمات والأعطاب.
لم تتغير المخابرات بكل فروعها، اللهم إلا في التسمية، وبقيت تسمية الـ DRS الأشهر بينها. تجذّرت في الأدبيات والصالونات والمواقع والأحاديث. كان يشار إليها بالبنان والهمس والرمز والعيون الدوارة، واليوم غدت في واجهة القذف والنقد والتجريح، وحتى الحقد، من لدن شارع مقنع بألف وجه، كرّس نفسه للغضب والاحتجاج، العفوي منه والمخطط له والمستحوذ عليه.
وما دام الجيش، وفرعه الأقوى المخابرات، في عين إعصار الحراك، وهذا الأخير يبدو في نظر عديدين يدور ويتلولب في فراغ مستحب، بدون فاعلية أو أفق، إلا أن حدّته وسخطه سيزدادان في مقبل الأيام من أضيق شارع إلى أوسعه، ومن أبسط مواطن إلى المسيس منه إلى الجاهل إلى المشجّع الكروي إلى غيرهم من الفئات التي تجوب الشوارع كل جمعة، جيئة وذهابا، فإن المنقذ الوحيد هو الجيش الذي عليه أن يبحث للحراك عن ملاذاتٍ آمنة من التيه والدوران والاستغلالات البينة والاستحواذات المطلة برأسها بين حين وآخر.
لم تنجح أية حلول قادمة أو مبشرة بالخلاص في ردع صدع الشارع.. لا أئمة المساجد ولا الساسة، ولا الرئيس بوعوده الكثيرة الرنانة، ولا حكومة ضالة الطريق، ولا بهلوانات المجتمع المدني الذي يراد بناؤه تحت أعين النظام وفي جبّته.. اقترب الشارع أكثر من نطاق العبث واللامعنى والضياع، حيث انسحب ببطء شديد من يقال إنهم عرّابوه ورموزه الكثيرة الزئبقية، أصبح في مهبّ تجاذباتٍ تشمل عائلات إسلامية، وتيارات غامضة التوجه، أشبه ما تكون بكارتيلات مغلقة، تتقوّى من ضعف المبادرات وبؤس المقترحات، وهو ما يجعلها عصية ومتصلبة، يصعب الولوج إليها، ناهيك عن المؤثرين في الميديا، بتشكيلاتهم المتنوعة وخطاباتهم الشعبوية، الخالية من أي روح خلاقة تقفز نحو المستقبل الصعب، وهي للأسف تستحوذ على قلوب شعب الحراك وعقوله، وتتغذّى من الفراغ المتغلغل فيه، ولسبب ما تستوطنه، وتسكن فيه كأنه أبدي أو أزلي.
خلا الحراك اليوم من نواة واضحة تتجه به نحو مواقع تنفذ إلى عمق المشكلات الحقيقية التي تسري في محيط المجتمع الظاهر، أن لا أحد يعرف أصلها أو حتى شكلها. وعندما تسأل أي أحد في الشارع من بمقدوره تأمين المخارج الكفيلة بتعليق التيه والتخبط الذي يدور في سماء الحراك، فلن تجد من يشفي غليل الترقب أو حرقة السؤال.
ليست الحلول مستحيلة، هي بيد العسكر. وكي لا تتضخم القراءات التي تصاحب فكرة نزول نخب الجيش إلى الشارع، وفتح قنوات واسعة معه، والاحتكاك به بشكل عفوي من دون وسيط أو رقيب، فإن حضورهم بالشكل والصوت والصورة سيعزّز من تيمة “الجيش خوا خوا” التي غابت وغيبت ومحيت من النص والسرد في عملية انتقال مبهمة إلى الشعارات السابق ذكرها. وعلى سوريالية الفكرة التي لربما قطعت مع تقاليد وعقيدة راسخة مقدّسة، حيث ينظر إلى الجيش دوما أنه قلعة محصنة ضد الرياح والأعاصير والعيون المتلصّصة، وبقي حبيس هذه السرديات التي تُسبك عنه وتقال، وحتى تشاع عنه الأقاويل والمفتريات على صحة بعضها، فإن تخطّي ثقافة التقوقع هذا سيتيح للجيش أن يصبح فاعلا أكثر، وستُسن من خلاله عقيدة جديدة، تواكب الأحداث، منسجمة مع التحولات السريعة التي تتطاير هنا وهناك، وعليه أن يكسر قاعدة الترقب والتريث والحسابات والتكتيكات التي لها صلة بالسياسة أو بغيرها من الأحداث الداخلية والخارجية.
في السعي إلى تفكيك الشارع المصاب اليوم بتخمة التيه واللامعنى تارة، وتشتت المطالب والحقائق تارة أخرى، واندساس جهاتٍ وفصائل وتياراتٍ تراكمت فيه بحذر طوال سنوات، وتدربت على تصيد الفرص والأخطاء، وبنت عليها أهدافها في بث الفوضى وعدم الاستقرار ونزع الثقة، وتتفيه كل مبادرة يمكنها أن تساهم في نزع فتائل الفتن. في مقابل ذلك، هناك سلطة أو نظام قائم، ولكنه مهزوز مفتقد لرؤية بينة وواضحة وعملية، بل كرس مواقف عظّمت الرفض والتمرّد لكل ما يصدره من حلول اعتبرت في الأعم ترقيعية غير حقيقية، لا تصمد أمام تفاقم المشكلات، حتى أنها أصبحت أضحوكةً أمام هجماتٍ يشنّها عليه الكل، خصوصا من رواد “السوشيال ميديا”. وعبر كل هذا المهرجان، يصطف الجيش حاملا أثقالا كبيرة، ينقصه الخيال في التعاطي مع نقائض متنافرة.. شارع عنيد، وسلطة يعرف جيدا أنها مطّاطية وبدون روح خلاقة، ورئيس غدا مريضا ومتعبا جرّاء إصابته بمرضٍ لا تُقال لنا حقيقته، ودولة تستمر بشق الأنفس في ممارسة مهامها، وتضرب لنا مواعيد يقال إنها ستخرج الهم من بيوتنا.
يشهد الجيش على هذا كله بتحفظ وعين يقظة، فهو أيضا متجاذب بين الصقور والكواسر والأجيال الجديدة التي تطلع ببطء بين جنباته في المخابرات في المعلوماتية في الصحة في البحرية في الدرك وفي غيرها من المصالح الاستراتيجية، يظهر كأنه المؤسسة الوحيدة التي يمكنها أن تفكّ عزلة الميدان المتضخم، بشرط ألا تبقى حبيسة جدران ردة الفعل، والذي يجعلها عرضةً دوما للنقد، وبالتالي تختفي من حيث يجب أن تظهر، كما حدث مع اللواء محمد قايدي (مدير المخابرات) أو غيره من خيرة الضباط والنخب عالية التكوين في كل المجالات والمستويات، كان يمكن أن تستثمر في رمزيتهم بقوة لتهدئة روع الشباب الغاضب المنتفض.
واليوم مع سقوط أقنعةٍ كثيرة، وانكشاف الضباب الكثيف الذي غطّى مسار الحراك وهوياته المتعدّدة، حقيقية أم زائفة، فإن نهاية النفق الذي يسير عليه الأخير يبدأ بابتكار طرق أخرى، وتغير نمط تعامل المؤسسة مع هذا الواقع، من خلال الحضور والتميز والتنويع في الخطوة والمبادرة، وتكسير الأسلوب والتقليد في الرؤية والسلوك، وتفكيك الألغام المحيطة بها الموسومة بالضعف والهشاشة والفشل في الاستقراء والتحليل والاستنباط، فكثير من جيوش العالم مثلا تستعين بنخبٍ من شتّى المجالات والتخصصات، تستشرف معها الواقع والرهانات والأخطار، وتضع الحلول والنتائج، وتفتح أبوابها في سعيها إلى تفعيل أفضل المبادرات المبتكرة، وهو أمر مهم جدا، إذ لا يكفي أن تُرفع التقارير إلى أعلى هرم السلطة، خصوصا عندما تكون هذه السلطة هزيلةً وبدون أفق أو استراتيجية أو عقل، بل يجب أن توضع في سياقاتٍ جديدةٍ، تتخطى التريث والحسابات الضيقة والصراعات الخفية المستورة، من دون المساس بحرمة الأسرار الضيقة ومصالح البلاد.
عندها يمكن القول إن بناء علاقة جديدة بين الجيش والشعب ليست مستحيلة أو صعبة، بل قائمة على أخوة حقيقية، تلك الأخوة التي يحفر في عمقها اليوم أكثر من عدو بعيد، يحرّكه صديق قريب، وعندها سيطمس شعار “دولة مدنية ماشي عسكرية” الغامض، ليفسح الأرض والفضاء إلى دولةٍ مدنيةٍ تُبنى بسواعد الكل، بمن فيهم أبناؤها العسكر.
المصدر: العربي الجديد