كثيرة هي الطرائف التي قيلت للتعليق على سياسات نظام حافظ الأسد وممارساته، وفي نقدها على المستويين الداخلي والإقليمي؛ وهذه ظاهرة عامة، شملت، وتشمل، جميع الأنظمة الدكتاتورية التي لا يمتلك فيها الناس حق التعبير الحر عن آرائهم، وأفكارهم المغايرة للتوجهات الرسمية للسلطة. ومن بين تلك الطرائف أن أحدهم توجّه مجبراً للإدلاء بصوته في واحدٍ من الاستفتاءات التي كانت تنظم “لتجديد البيعة للقائد الملهم”، ولكنه كان قد صمّم بينه وبين نفسه ألا يمنح صوته لصالح التدوير، فوضع الإشارة المطلوبة على الدائرة الرمادية ووضع الظرف في الصندوق؛ ثم خرج من المركز الانتخابي، ليتوجّه إلى منزله. وفي الطريق هاجمته الكوابيس: ماذا سيحصل لك إذا اكتشفوا أمرك؟ ما هو المصير الذي ينتظر أسرتك في هذه الحال؟ أي مستقبل ضمنته لأولادك بهذا التصرّف؟ … إلى آخر هذه الكوابيس والهواجس السوداوية؛ لذلك قرّر فجأة العودة إلى المركز، وتوجه إلى رئيسه مباشرة: أرجو عدم المؤاخذة، لم أفهم المطلوب. فربما كنت قد وضعت الإشارة على الدائرة الخطأ. هل في مقدوري تصحيح الخطأ؟ فأجابه رئيس المركز بكل عجرفة، وسلطوية: لقد صحّحنا نحن الخطأ، ولكن إياك أن ترتكب مثل هذه الأخطاء القاتلة ثانية.
لقد أسّس حافظ الأسد نظاماً دكتاتورياً شمولياً، واعتمد في ذلك على الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث. ولكن الحلقة الأكثر أهمية كانت تتمثّل في الأجهزة الأمنية القمعية التي كانت تراقب كل شاردة وواردة في الجيش على وجه التحديد، والمجتمع السوري بصورة عامة، فقد كانت تتدخل في كل شيء، بدءاً من قبول الطلاب في كليات الجيش والشرطة، والبتّ في طلبات المتقدّمين إلى الوظائف بكل مستوياتها. هذا إلى جانب تقديم الاقتراحات بخصوص أسماء قيادات الفرق والشُعب والفروع الحزبية؛ وحتى أسماء أعضاء القيادة القُطرية، وأسماء الوزراء ورئيس الوزراء، ووضع قوائم أسماء أعضاء مجلس الشعب. وكانت عقيدة حافظ الأسد في الحكم تقوم على عدة مرتكزات، أهمها:
أولا، الاحتفاظ بواجهات الحكم، وعدم إجراء التغييرات فيها قدر الإمكان، وذلك لترسيخ مفهوم الاستقرار، وتكوين انطباعٍ كاذب لدى تلك الواجهات، ولدى الناس في الوقت ذاته، بأن هؤلاء يمتلكون القدرة على اتخاذ القرارات؛ في حين أن الجميع كان على علمٍ بأن كل القرارات، وعلى جميع المستويات، لا تصبح سارية المفعول، من دون الضوء الأخضر من حافظ الأسد نفسه.
ثانيا، الإصرار على تسويق القراءة السلطوية للأحداث والمواقف على مختلف المستويات، وتكرارها من دون كلل أو ملل عبر وسائل الإعلام، وفي الخطابات الرسمية، بغض النظر عن مدى مطابقتها الوقائع.
ثالثا، عدم إبداء المرونة أو الاستعداد للأخذ ببعض الإصلاحات بناء على مطالب الناس، ودعوات الإصلاح من القوى السياسية والمجتمعية، فهو كان يدرك أن النظام الشمولي يمهد الأرضية لانهياره بمجرّد أن سمح بتعديلاتٍ تتناقض مع طبيعته.
رابعا، اعتماد المظاهر الديمقراطية الشكلية في الحكم؛ والإيحاء بإشراك الأحزاب السياسية. وبالتناغم مع هذه التوجه، اعتمد نظام الإدارة المحلية. وسن التشريعات والقوانين الخاصة باختيار أعضاء مجالس البلدات والمدن والمحافظات. ولكن ذلك كله تحت إشراف وضبط صارمين من الأجهزة. كما أنه تمكّن من تدجين الأحزاب السياسية، الشيوعية منها والقومية العربية، بتدرجاتها المختلفة، وضمّها إلى “الجبهة الوطنية التقدّمية” التي شكلها بقيادة حزب البعث الذي حدّده قائداً للدولة والمجتمع، بموجب المادة الثامنة من دستوره، (دستور 1973) ليصبح هو “القائد الضرورة” الذي لا يستغنى عنه، باعتباره قائد الحزب القائد نفسه/ وقائد الجيش.
وكانت الاستفتاءات المتعاقبة التي جدّدت له باستمرار، بل كانت هناك أصوات تعلو وتطالب بضرورة “تجديد البيعة له إلى الأبد”، وهذا ما حصل في الواقع، لأنه ظل رئيساً مطلق الصلاحيات منذ انقلابه على رفاقه وأقرب المقرّبين إليه عام 1970، حتى يوم وفاته في صيف عام 2000. واللافت، الذي يدعو إلى التمعن، أن حافظ الأسد قد تمكن وهو في حياته من تحديد خليفته في النظام الجمهوري. وكان من الواضح أنه يعتمد في هذا المجال على واجهات حكمه التي ظلت تلازمه منذ بداياته، حتى وفاته، وهي الواجهات التي دينت بالفساد، ومارست التجاوزات، وأسهمت في إحباط فعاليات المجتمع المدني التي انطلقت بعد وصول بشار إلى الحكم، الذي وعد بالكثير في خطاب قسمه الشهير؛ ثم سرعان ما تبين أنه كان يلتزم سياسة “تمسكن حتى تتمكّن”.
واستمر الابن على نهج أبيه، سواء من جهة تنظيم الاستفتاءات الصورية، ومن جهة الاستهتار بالسوريين، وسدّ الأبواب أمام أي عملية إصلاحٍ، كان من شأنها التخفيف من الاحتقانات، والإسهام في حل مشكلات السوريين بالتدريج؛ ولكنه استخدم شعار الإصلاح نفسه لمجرد التعمية، والتضليل، حتى تمكّن من تثبيت نفسه، وأبعد الخصوم المنافسين، وكانت وسيلته في ذلك كله الأجهزة الأمنية، وامتداداتها في الجيش.
أما في انتخابات 2014 فيبدو أنه قد التزم بتوجيهات رعاته الروس والإيرانيين، وهم الخبراء في الانتخابات الشكلية، على الرغم من تعدّدية المرشّحين، فأتاح المجال لمرشّحين آخرين كان كل همهما إبداء دعمها قيادة بشار الأسد. وها هي اليوم المسرحية ذاتها تتكرّر اليوم، وبصورة أكثر ابتذالاً. وربما يوحي المشهد العام بما هو لصالح النظام في هذه الانتخابات، فهو يسيطر على مناطق أوسع من البلاد مقارنة بانتخابات عام 2014. كما أنه تحرّر، بمساعدة الروس، من عقدة هيئة الحكم الانتقالي؛ وهو اليوم يمارس لعبة التضليل بكل مقوماتها في إطار مفاوضات جنيف، عبر اللجنة الدستورية التي لم ولن تصل إلى شيء، إذا ما استمرّت المعطيات الحالية على وضعيتها. كما أن انفتاح دول عربية عليه يخفّف نسبياً من عزلته، وربما يساهم في تخفيف أزمته الاقتصادية؛ ولكن الموقف الغربي الأميركي، والأوروبي تحديداً، الرافض الانتخابات، وعدم الاعتراف بنتائجها؛ لأنها لا تجري وفق الأطر التي حددها قرار مجلس الأمن 2245. بل تأتي بصورة قصدية للالتفاف على هذا القرار، وهو النهج الذي اعتمده بتوجيه من الروس منذ البداية. ويؤكد هذا الموقف أن تعويم النظام وتدويره لن يكونا من باب تحصيل حاصل.
والأمر الذي أثار الانتباه أكثر من غيره ما أعلنه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بخصوص ما يمثله النظام من خطورة على الشعب السوري، وعلى المنطقة، وعلى المصالح الاستراتيجية الأميركية نفسها. والسؤال هنا: هل يعد هذا الموقف خطوة أولى واضحة في موقف الإدارة الأميركية من النظام، ستتبعها خطواتٌ أخرى؟ أم أنها تأتي في سياق تبادل الرسائل مع الإيراني، ضمن المفاوضات الجارية حول الموضوع النووي؟
ولكن بالموازاة مع الموقف الغربي الملتزم بعدم التطبيع مع النظام الأسدي؛ يلاحظ وجود حركة إقليمية نشطة بين مختلف الأطراف. منها التواصل الأمني – السياسي التركي المصري، والتركي السعودي، والمباحثات الأمنية السعودية الإيرانية من جهة، والسعودية السورية من جهة ثانية، هذا إلى جانب تسريبات عن لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وممثلين عن النظام برعاية روسية. ولكن كل هذه التحرّكات تظل في خانة ترتيب الأوراق، وجمع النقاط، انتظاراً لتبلور معالم الموقف الأميركي الذي سيؤثر، بطبيعة الحال، في الموقف الأوروبي، ولن يكون بعيداً عن التفاهمات مع الجانب الإسرائيلي، خصوصا بعد تفجر الأوضاع في الاراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي انتظار هذا التبلور، لا بد أن يسعى السوريون من أجل إعداد البديل المقنع للسوريين أولاً، ومن ثم للقوى الدولية والإقليمية. بديل يتوجه إلى جميع السوريين من دون أي استثناء؛ وبخطاب وطني جامع، يقطع بصورة جازمة، نهائية، مع خطاب الكراهية والأحقاد و”الثارات”، سواء المذهبية – الطائفية منها أم القوموية. خطاب يطمئن جميع السوريين، ويركز على القواسم المشتركة؛ ويشدّد على ضرورة احترام الخصوصيات والحقوق، وعلى الدولة المدنية الديمقراطية التعدّدية المحايدة دينياً وقومياً وأيديولوجيا. وفي مقدمة المهام التي تنتظر هذا البديل مهمة ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري الذي فتك به النظام ورعاته. وكذلك مهمة تأكيد دور سورية المفتاحي على صعيد التواصل والتفاهم بين مختلف القوى الإقليمية والدولية؛ والتعاون معها من أجل تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، وتوفير المقدّمات الفعلية لنهوض تنموي يوفر فرص التعليم والعمل للشباب، ويضمن مستقبلاً واعداً لأجيالنا المقبلة.
المصدر: العربي الجديد