ولدت الدولة في بلادنا بفعل عملية قيصرية، على النقيض من التطور الطبيعي لظهورها في العالم الغربي، فكانت مولوداً خديجاً، جاء إلى الحياة من خلال مسطرة الدول الاستعمارية. وحين بدأت الكيانات الوليدة بإنشاء تقاليد “دولتية” لم تكن موجودة من قبل، استلهمت في جملة ما استلهمته التقليد الأوروبي في ضرورة وجود أناشيد وطنية لها، ولهذا كان النشيد الوطني مولوداً صناعياً أيضاً، بمعنى أننا قلما نعثر على أغنية أو قصيدة تطورت بالتوازي مع نمو الشعور الوطني، على نحو ما حدث في كثير من الدول الأوروبية التي نمت فيها قصائد معينة، تحولت لاحقاً بفعل حوادث تاريخية معينة إلى “أناشيد وطنية”.
كان النشيد الوطني واحداً من الرموز التي حاولت الدولة الوليدة استثمارها، في سبيل تعزيز ارتباط المواطنين بدولهم، بغية صهر الفئات والشرائح والطوائف في إطار واحد، ولاسيما في ظل دول أشرنا إلى أنها نشأت من خلال تقسيمات استعمارية، لم تأخذ بالحسبان التركيبة الدينية والطائفية والقومية…إلخ. فحوى ذلك كله أن النشيد وسيلة لتعزيز الانتماء، من خلال تحويل أناس مختلفي المنابت والجذور والأهواء إلى “جماعة أهلية”، وخلق رابطة متخيلة تعزز شعورهم بوجود صلة بينهم أقرب إلى رابطة الدم والنسب.
من الوظائف التي يؤديها النشيد خلق نوع من المساواة بين الأفراد المختلفين، اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، وتنمية الرغبة بالتضحية من أجل الرابطة المتخيلة. بهذا ينزاح النشيد إلى ما يشبه التراتيل التي تعزف في المناسبات-الطقوس التي يفترض أن تجد فيها الجماعة ذاتها المتخيلة حاضرة بقوة.
تصنف الأناشيد الوطنية، عموماً، في ثلاثة أقسام: أناشيد تدعو للحاكم بالسلامة، وأناشيد تشير إلى المعارك التي خاضتها الأمة، وصنف ثالث يعبر عن المشاعر الوطنية. واستقراء الأناشيد الوطنية العربية يظهر أن الأناشيد في الدول العربية ذات الطابع الملكي تنتمي إلى النوع الأول، أما النوعان الآخران فهما صنفان يهيمنان على الأناشيد الوطنية في الدول ذات الأنظمة الجمهورية، مع تفاوت في درجات حضور كل منهما.
انبثق النشيد الوطني في دولنا وهو يضمر “آخر” خارجياً يهدد الوطن، ويتربص باستقلاله، ويسعى للسيطرة عليه واستعماره، لأنه ظهر في مرحلة الانتقال من سيطرة الدولة المستعمرة (وأحياناً تحت سيطرتها) إلى مرحلة الحكم الوطني. ونشأ عن هذه الوضعية التاريخية أن النشيد يحمل في كلماته الهموم الوطنية في تلك المرحلة، ولهذا فمن المهم الإنصات إلى الإشارات التي تصدر عن النشيد، والتي ترينا إلى أين يتجه مؤشر بوصلة اللاشعور الجمعي في تلك المرحلة، والأدلجة التي ترتكز عليها الدولة الوليدة.
إذا اقتربنا مما يقوله النشيد السوري – وهو الحالة التي تهمنا هنا- فسنلاحظ أنه يوجه في البداية تحية إلى “حماة الديار” ذوي النفوس الكريمة، ثم يصف البلاد بتعبير موغل في الشعرية هو: عرين العروبة، ويردفه بالانتقال إلى عالم السماء، حيث يغدو الوطن عرشاً للشموس، وحمى محرماً على الأغيار. ويغوص النص أكثر في عالم الشعرية، فيتحدث عن رفيف الأماني، ويعرج على العلم الذي ضم البلاد التي كانت ممزقة في دويلات طائفية ومناطقية، ويؤكد على غرار كل الأناشيد الوطنية الأخرى أن اللون الأحمر فيه هو رمز لدماء الشهداء، ثم يرتد بطريقة ذكية من الحاضر إلى الماضي، فيذكّر بالمجد التليد للدولتين الأموية والعباسية؛ وينتهي بالكلام على السيادة.
ما يعمل النشيد على ترسيخه في الوعي الجمعي، أنه يحدد ملامح ماهية الوطن الذي يسعى إلى نقل الإحساس به، من شعور فطري إلى مفهوم سياسي حقوقي، يرتقي فيه الارتباط بالأرض، من حالة وجدانية بسيطة إلى حالة عامة، تشمل أرض الدولة كلها. فكيف يتجلى هذا في النشيد السوري؟ أو لننقل: ما هي الأطروحة الأساسية التي يحاول النشيد السوري تكريسها والدعوة إليها؟
محددان أساسيان يتحكمان بالرؤية التي يطرحها النشيد السوري: بعد قومي هو العروبة، وبعد جغرافي هو الشام، والمقصود بلاد الشام التاريخية. وهذان المحددان ينبغي قراءتهما في إطار المسكوت عنه في الخطاب، إذ يحمل النشيد الوطني في داخله رداً على خطاب آخر، يشكل تهديداً حاضراً أو مفترضاً. والبعدان المهددان للكيان الوطني، والمسكوت عنهما: قضية التتريك التي شكلت تهديداً للغة العربية، والخطر الصهيوني المتمثل بوعد بلفور.
العروبة هي الأدلجة التي أسس عليها الكيان السوري، بعيد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وهي ركن أساسي في تصور الدولة الوليدة لنفسها، وفي تشكيل هويتها التي تميزها من الآخرين، وهي -كيلا ننسى- رد فعل على فعل آخر، كان هدفه محو الشخصية العربية. هذا هو السبب في هيمنة البعد القومي على البعد الديني في الضمير الجمعي لدى السوريين. وتتضح هذه الهيمنة في غياب أي وطنية سورية خالصة في المخيال الجمعي، فسوريا ذاتها جزء من كل، وغياب البعد الوطني السوري هو محصلة طبيعية لهذا الأفق القومي الذي صيغ في نهايات الدولة العثمانية، وبدايات تشكل الدولة السورية الوليدة. وما كان لهذه الأدلجة أن تتحقق لولا تهافت الرابطة الدينية، الذي أسفر عن خروج البلاد العربية على الحكم العثماني. فالنشيد يعبر عن مسعى لإيجاد جماعة متخيلة جديدة، تقوم على نظام سياسي قومي، يتعارض كلياً مع النظام الديني السابق.
بالعودة إلى المحدد الجغرافي، سنكتشف أنه تلاشى في البعد القومي الأرحب والأوسع منه مدى، بحيث انصهر في مساحة ممتدة من المحيط إلى الخليج، دون أن ننسى ما تسبب به اغتصاب فلسطين، واقتطاع لبنان، وتحويل شرق الأردن إلى دولة مستقلة، من جرح غائر في الوعي الجمعي لدى السوريين، بقيت آثاره في طريقة التعامل مع تلك الكيانات السياسية، من قبل الدولة السورية ذاتها، ومن قبل الأفراد على حد سواء.
غير أن أخطر ما في مضمرات النشيد الوطني هو الطابع العسكري الذي لا يمكن نكرانه، فالتحية في العبارة الأولى منه توجه إلى حماة الديار وحدهم. أما بقية المواطنين فيتجاهلهم النشيد، لأنهم يأتون في مرتبة تالية لهؤلاء. فالنشيد، إضافة إلى ما ذكرناه من قبل، يسعى جاهداً إلى تكريس نوع من الطبقية في المواطنة، إذ يوجد حماة الديار، ويوجد الآخرون الذين تحميهم الفئة الأولى، ولذلك فهو يؤسس لشرخ بين المواطنين، بين المدنيين والعسكريين الذين يُمنحون أفضلية على الطرف الأول الأضعف.
مع اندلاع الثورة السورية، ومع معركة التحول من سلطة نظام دكتاتوري إلى دولة ديمقراطية، ظهرت دعوات للبحث عن نشيد وطني جديد، يتناسب وشعارات الحرية والكرامة التي طرحتها الثورة، ولاسيما أن استعارة “الجيش السوري” لاصطلاح “حماة الديار” ولّد رد فعل لدى جمهور الثورة السورية الذي لم يعد يرى في “الجيش السوري” إلا ميليشيا طائفية مهمتها القتل والتهجير.
في اللحظة التي تتوقف فيها السلطة عن سرقة رموز الدولة، والاستحواذ عليها، والاستثمار فيها، نكون قد قطعنا الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية والوطنية الطويل، الخطوة الأولى في مسيرة تحولنا إلى شعب، بدلاً من اختلافنا في كل شيء، حتى في ألوان العلم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا