يعيش لبنان حال جمود سياسي قاتل، فيما المنطقة كلها من حوله تتحرّك وتتغير. سابقاً، كانت التطورات الخارجية تنعكس سريعاً على البلد المتأثر بكل ما يجري في الإقليم. لكنه حالياً في آخر سلّم الأولويات. ولأسباب تخص القوى الخارجية، ونتيجةً للعناد الداخلي.
صمت نصرالله
لا قوة خارجية جاهزة للتعاطي مع الملف اللبناني بجدية، وراغبة في إنقاذه أو الاهتمام به، ما لم يقدم اللبنانيون أنفسهم على ذلك. فيما العناد والخلافات المصلحية والشخصية والآنية، تقطع الطريق على احتمال تأثير التطورات الخارجية على الواقع اللبناني الداخلي.
اللقاءات العربية-الإيرانية، لا تهتم حتى الآن بلبنان ولا بحلّ أزمته. وهو متروك على قارعة الانهيار الشامل، في انتظار ما يفرزه تطور الأوضاع في المنطقة. وفي غياب الديناميكية الداخلية، ليس من بارقة أمل للوصول إلى حلّ الاستعصاء القائم بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وعدم إقدام حزب الله على أي مبادرة جدية للخروج من المأزق السياسي القائم وتشكيل حكومة.
غياب أي موقف حول الحكومة أو حول الوضع السياسي الداخلي المعقد، حسب أمين عام حزب الله في كلامه الأخير لمناسبة يوم القدس، مؤشر إلى أن الأزمة الداخلية مستمرة بلا بوادر لحلّها. ويحيل صمت نصر الله الأمر إلى الاستمرار على حال انتظار التطورات الإقليمية والدولية وما قد تفضي إليه، على وقع تحليلات متعددة حول لمن ستكون الغلبة في مرحلة التسوية.
الطرف الأقوى
يعتبر حزب الله أنه ابن المحور المنتصر، طالما أن الدول الخليجية والعربية غيّرت مواقفها وذهبت إلى ترتيب العلاقة مع إيران. ما يعني أن التطورات تصب في صالحه سياسياً على الساحة اللبنانية. وهو في الحالات كلها يحقق المكاسب. وإذا استمر الانهيار، يعتبر أنه الطرف الوحيد القادر على لملمة صفوفه وضبط مجتمعه، واختراق المجتمعات الأخرى. وفي حال حصلت التسوية سيكون الطرف الأقوى فيها، نظراً لقوته التنظيمية والعسكرية والاجتماعية والسياسية.
بعض الممعنين بالواقعية يعتبرون أن التسويات الخارجية ستفضي إلى إنتاج “الدولة الشيعية” في لبنان، في الحقبة الثالثة للدولة اللبنانية. وهذا على اعتبار أن الدولة الأولى منذ الاستقلال إلى الحرب الأهلية، كانت “دولة الموارنة” أو المارونية السياسية. والدولة الثانية ما بعد الطائف كانت دولة السنّية السياسية. والآن يدخل لبنان طور دولة الشيعية السياسية.
ولكن لا بد من تسجيل ملاحظة بسيطة هنا: في أعقاب الدولتين “المارونية والسنية” لم يكن الحكم مطلقاً للموارنة والسنة. بل كانت هناك عوامل وموازين سياسية قادرة على التأثير والتغيير في لحظات متعددة. وكان ذلك يجري على إيقاع التطورات الخارجية.
بلد لا يُبتلع
أما الممعنون في الأمل فيعتبرون أنه يستحيل على حزب الله حكم لبنان، أو الانتقال إلى ما يسمى دولة السيطرة الشيعية، مهما تغيّر ميزان القوى داخلياً وخارجياً. وهذا أقله بسبب تصنيف حزب الله إرهابياً ونبذه من قبل المجتمع العربي وجزء كبير من المجتمع الدولي. ثم إن ذلك لا يمكن أن يستقيم، لا سياسياً ولا اجتماعياً.
ولا ينفي أصحاب هذا الرأي أن يكون حزب الله صاحب قرار مؤثر ومقرر في المعادلة، لكن استناداً إلى التوازن وليس كسره. فالكسر هو الذي أودى بلبنان إلى هذا الانهيار. لذا يستبشر هؤلاء خيراً بالمفاوضات الإيرانية العربية، التي ستعيد التوازن إلى الساحة العربية كلها، ومن ضمنها لبنان.
هؤلاء يصفون البلد بأنه “حسكة” تخز كل من يظنّ أنه قادر على ابتلاعها، ليكتشف عكس ذلك. ولإثبات هذا الرأي يُستعان بدلائل تاريخية: من أيام بشارة الخوري إلى كميل شمعون وحلف بغداد، وصولاً إلى ثورة الـ58، وكذلك في مرحلة الحرب ومع الاجتياح الإسرائيلي وانتخاب بشير الجميل، بدا الميزان في كل لحظة أنه مائل بشكل كامل وتلقائي لصالح محور على حساب الآخر. لكن الواقع كان ينقلب رأساً على عقب في الأشهر التالية.
لذلك، من المبكر الحديث عن تحديد ملامح الصورة النهائية للتركيبة السياسية التي سيخرج بها لبنان، بعد هذا الانهيار السحيق الذي يعانيه. الجمود السياسي القائم، وعدم قدرة أي طرف على إنتاج تسوية سياسية أو اجتراح حلّ، وفقدان الحيلة السياسية لدى من كانوا يخرجون الأرانب من أكمامهم، ليس دليل عافية بالتأكيد، لكنه دليل على الاستمرار في حال الترهل والتآكل.
المصدر: المدن