سُجِنَ عدّة مراتِ، ككل سياسي في سورية. لكنّه سُجِنَ لأنّه الأكثر بحثاً عن التغيير في سورية في جمهورية الخوف. منذ عقودٍ، تداول السوريون سرّاً، وكل السياسة الجادّة كانت سرّيّة، أشرطة تسجيل قديمة، وكان فيها كلمةً لميشيل كيلو وأخرى لممدوح عدوان وكلمات لآخرين في مؤتمر لاتحاد الكتاب العرب (السوري) في 1979. رفضوا فيها ديكتاتورية النظام في لحظة الحرب الطائفية في سورية. كانت جرأة كبيرة حينها أن يُعلنوا موقفاً رافضاً للنظام، وقد راح يتأسّد ويغلق كل منافذ الحريات حينها. بعد عام 2000، ساهم السياسي المخضرم في مختلف الفعاليات السياسية البارزة: بيان الـ99، بيان 1000، وثيقة إعلان بيروت دمشق، وإعلان دمشق، لجان المجتمع المدني، وهكذا. مع انطلاقة الثورة 2011، كان دوره بارزاً في كل تشكيلات المعارضة، وبدءاً بهيئة التنسيق الوطنية، وليس انتهاء بالمنبر الديمقراطي والائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة. لديه ترجمات كثيرة، وأبحاث فكرية، ونشرَ أخيرا عن دار موزاييك في إسطنبول كتابا يتناول حقبة الجنرال حافظ الأسد وحكمه.
شخصية سياسية كبيرة، ولكنها لم تُعط يوماً دوراً سياسياً يذكر. كانت محط تضييق ومراقبة واستدعاء من أجهزة الأمن. هكذا عاش سني حياته، وأيّة حياة هذه؟ وحينما ضاقت السبل بأمثاله، اختار المنفى ليتابع نضالاته. نعم، ظلمه نظام بلاده ظلماً شديداً. ظُّلمَ الرجل الذي لم يتأخر عن دعم التحوّل الديمقراطي وقيادته في بلاده سورية، ثم وافته المنيّة، ولم تتحقق أمنياته أول من أمس، 19 إبريل/ نيسان 2021.
يؤخذ على الراحل تحالفه مع أحمد الجربا، أحد رؤساء الائتلاف الوطني للثورة والمعارضة، وكذلك مساهمته في تأسيس تيار “سوريون مسيحيون من أجل العدالة والحرية”، وإشادته بشباب تابعين لجبهة النصرة، وهناك كثرة مساهمته بتشكيل منابر وقوى سياسية والانسحاب منها، وأيضاً تصريحات غير ديمقراطية بحق الأكراد. تلك المآخذ، ربما بالنسبة لسياسيٍّ كميشيل كيلو إضافات نوعيّة لدعم التغيير في سورية، وجاءت في لحظةٍ غير مدروسة جيداً. ليس ميشيل وحده من فكّرَ بهذه الطريقة، بل كثرٌ من قيادات المعارضة السورية. إذا كانت الأمور بخواتيمها، فميشيل والآخرون أخطأوا، وكان عليهم أن يكتبوا نقداً لتجربتهم المهمة تلك؛ فالواقع يقول إن الفئات التي دعمها استفادت منه، وليس العكس، بينما الرجل استقال منذ 2016 من “الائتلاف”، واختار العمل مستقلا. وهذه مأساة كبرى أن تترك شخصية كميشيل كيلو وأمثاله العمل السياسي، وتتصدّره شخصياتٌ لا تاريخ لها، ولا قيمة اعتبارية أو مكانة إقليمية، وكذلك ليس لها باع في العمل السياسي والثقافي. وهذا لا يتناقض مع ضرورة أن تتنحّى الشخصيات الكبرى عن العمل السياسي لقياداتٍ شابّة، وليس لمن أصبحت قياداتٍ في المعارضة!
كانت مقالاته أخيرا في صحيفة العربي الجديد، كلّها دعوات من أجل إعادة الروح إلى المعارضة، والعودة إلى العمل السياسي الوطني، وعدم ترك الوضع السوري بأيدي الخارج، الإقليمي والدولي، وهذا صائبٌ للغاية، حيث كل تسويّةٍ ستتحقق، وبغياب المعارضة الفاعلة ستكون كارثة على الوضع السوري، فكيف ستضمن الدول الكبرى مصالح الشعب السوري، وهي تتدخل في دولة ذلك الشعب، وتسيطر عليها وتحتلها، وتتقاسم مراكز النفوذ فيها!؟
على فراش الموت، كتب رسالة إلى السوريين كافة. أراد منها ألا يستكين السوريون للخارج، وللإحباط مما آلت إليه أوضاعهم. حثَّ فيها على الإنصات “والانصياع” لكل صاحب فكر ورأي، والأخذ بآرائهم، وهذا بالضرورة يقتضي نقدها ونقاشها وتطويرها، وليس كما حلّل كثر على صفحات التواصل الاجتماعي؛ أن ميشيل يُملي على السوريين ما عليهم التقيد به من دون شرط أو رفض أو انزياح! فيا سادة، كان الرجل يكتب وهو في سكرات الموت، فكيف ستكون مفرداته؟
كان هدف الرسالة التخلص من العمل الشلّلي والحزبي الضيق، والسعي نحو توحيد السوريين، فليس من الممكن أن ينتصر السوريون، أو يكون لهم موقع قدمٍ في المستقبل، وهم مقسّمون. فكرته سليمة، ومن الخطأ تكرار الفشل، في تجارب العمل السياسي الرافض “الائتلاف الوطني ..”، أو بقية التشكيلات السياسية المكرّسة، كهيئة التنسيق والمجلس الوطني السوري وسواهما. العمل من أجل تمثيل جديدٍ للمعارضة أو تطوير القديم المذكور منها، وتغيير توجهاتها والتخلص من التبعية لهذه الدولة أو تلك، وإعادة إطلاق سياساتٍ جديدةٍ على أسس وطنية ومواطنية، نقول إن هذا هو الأساس الصلب لأيِّ عملٍ جادّ وفاعل ومؤثر، وإيقاف ما آلت إليه الأوضاع السورية من مآسٍ وتشتت واستنقاع ومراكز نفوذ للدول الخارجية.
غادرتنا شخصية سياسية مهمة في تاريخ سورية. لن يتم تعويضها بسهولة أبداً، فهو من المبادرين القلّة، بعد عام 2000 لتفعيل العمل السياسي الديمقراطي السوري. نعم، حان الوقت من أجل تشكيل مؤسساتٍ جديدة للمعارضة، تتجاوز الأخطاء التي وقع بها الراحل ميشيل كيلو ذاته، وهي التحالف مع أيّة فئاتٍ سياسية رافضة للنظام، أو قادرة على تحشيد فئاتٍ جديدةٍ لصالح الثورة. أشكال الفشل التي عاشتها الثورة والمعارضة وسورية تقتضي معارضة جديدة، ومشروعا سياسياً جديداً، يتجاوز الانقسامات بين السوريين، ومهما كانت أسباب الانقسام.
خسرت سورية قبل عام 2000 بسجن ميشيل كيلو وتهميشه، واختيار المنفى بضع سنوات بعد عام 1984 بدلاً من محاورته، وكذلك رفضت محاورته، حينما خرج من سورية بعد عام 2011، وبوفاته أيضاً تخسر سورية الكثير الكثير. خسرت رجلاً كان في وسعه أن يساهم في المرحلة الانتقالية، والتحوّل الديمقراطي والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي.
الطغيان يقضي على أفضل ما في البلاد من رجال وثروات وثورات ومعارضات. إنه يسلمها إلى الغزاة إن رفضه أهلها. يرحل ميشيل كيلو وسورية أصبحت محتلة. هذه الحقيقة تجاهلتها المعارضة، وميشيل كيلو منها، آخذين بالاعتبار إمكانية أن تغير روسيا البوتينية من سياساتها وعدم التصعيد معها، ولكن هذا غير ممكن؛ فروسيا أو تركيا أو أميركا أو إيران وسواها تنفذ سياساتٍ تخضع لمصالحها، وليس لمصالح الشعوب المتعثرة والمُحتلة.
المصدر: العربي الجديد
فقدت سوريا أحد أكبر رجالاتها، قامة وطنية إنسانية شامخة نبيلة، ميشيل كيلو مرجعية وطنية، سيبقى في ضمائر الأحرار وعشاق الحرية والكرامة، له الرحمة واحر التعازي للشعب السوري العظيم الذي فقد قامة بحجم وطن.