اللافت في معالجات الاعلام الاسرائيلي للهجوم الذي عطّل منشأة “نطنز” النووية في إيران، فجر الأحد، إنها استندت في معظمها- طيلة الساعات الماضية- إلى النقل عن الإعلام الأجنبي وخصوصاً الاميركي، بدءاً من تحديد طبيعة الهجوم وهو “سايبر”، مروراً بالإشارة إلى مسؤولية إسرائيل عنه، سواء بشكل كامل أو جزئي.
واعتمدت القناة العبرية الرسمية “كان”، على صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بناء على مصادر استخباراتية أميركية وإسرائيلية، للحديث عن دور معين لإسرائيل في الهجوم “السيبراني” الذي يمنعها من تخصيب اليورانيوم لمدة تسعة اشهر على الأقل، في محاولة لتوزيع عبء المسؤولية على تل ابيب ودول أخرى، ما يكبح أي رد من إيران موجّه ضد اسرائيل؛ بحكم انها “ليست الفاعل الوحيد”.
والواقع، أن ما يجري الآن في خضمّ الحرب السرية الجارية بين اسرائيل وإيران، هو أن التسريبات “المُوجهة” تكثر الآن في سياق مخطط من الرقابة العسكرية الإسرائيلية، باعتبار أنها تتحكم وتضبط ما يُنشر في الإعلام داخل الدولة العبرية، ثم تسمح بنشر تسريبات عبر الإعلام الدولي في آن واحد.. كبديل للصمت الرسمي الإسرائيلي.
وبدت قصة “التسريب” ضائعة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وسط اتهام الأخيرة لتل أبيب بأنها تقصد من وراء عملياتها السرية ضد ايران تخريب الجهود الدولية الرامية الى استئناف المفاوضات مع طهران، توطئة للوصول إلى اتفاق نووي معدل يراعي “مصلحة الجميع”.
وبينما تتهم إسرائيل، واشنطن بأنها تقف وراء التسريبات للضغط باتجاه كبح العمليات السرية، ترد الولايات المتحدة قائلة: “أنتم مَن تسرّبون للإعلام الدولي، لا نحن”.
ولعلّ ما كشفته صحيفة “هآرتس” يعزز الرواية الاميركية بشأن الجهة الحقيقية التي تقف خلف التسريب؛ إذ قالت إن “ضابطاً اسرائيلياً قام بتسريب استباقي عن عملية ضد هدف إيراني في سوريا قبل تنفيذها، وهو ما كاد يشكل خطراً على حياة الوحدة الخاصة المنفذة، لأن التنفيذ تأجل ليوم واحد.. ثم طلب ذلك الضابط من الصحافي العامل في صحيفة أجنبية ان يؤجل النشر حتى تُنفذ العملية”.
ولعل السؤال البارز هو: مَن الفاعل الحقيقي في عملية التسريبات عن عمليات اسرائيل “السرية” ضد إيران؟.. وماذا يُراد منها؟
يثبت تتبع عدد من التسريبات ومصادرها حول الموضوع، أن ثمة سياقات ثلاثة للتسريبات؛ فبعضها تم بتنسيق بين الأمن الاسرائيلي والأميركي، وبعضها الآخر من قبل الطرفين بشكل منفصل.. لكن هناك تسريبات كان خلفها مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على وجه التحديد.
وهنا يتولد سؤال آخر، مفاده: لماذا تُسرّب اسرائيل عن عملياتها السرية ولا تقوم بالإعلان رسمياً في كثير من الأحيان؟.. الإجابة، تكمن في أن لجوء الدولة العبرية إلى الإعلام الرسمي يسبب لإيران حرجاً من شأنه أن يزيد فرصة الرد من قبلها. لكنّ “التسريب” يكتفي بالإثارة السياسية والأمنية عبر الإعلام، ومن وراء الكواليس، من أجل “قول تحذيري” لإيران والجميع بأن “يد اسرائيل” طائلة بدليل أنها نفذت عشرات “العمليات السرية الناجحة” ضد سفن لإيران في عرض البحر ومواقع لها في سوريا واليمن والعراق ودول أخرى، ورغم أن الجمهورية الإسلامية لا تحتاج إلى إعلان رسمي أو تسريب كي تعلم هوية منفذ الهجوم ضد مصالحها ما دامت تخوض حرب استخبارات مع اسرائيل.
وهنا تحرص إسرائيل على إيصال رسالتها من خلال التسريب، عبر توجيه تحذير لإيران: “أنتم مكشوفون، لا داعي لمحاربتنا”.
وهنا نعود ثلاثة أشهر إلى الوراء، حينما حذر رئيس أركان الجيش الاسرائيلي كوخافي في كلمته، خلال مؤتمر مركز أبحاث “الأمن القومي”، إنه في الحرب المقبلة “سيموت كثير من الإسرائيليين بفعل صواريخ ايران ومجموعاتها، لكننا سنُدمر مَن سيطلق الصواريخ”.
وبالعودة إلى موقعة “نطنز”، بدا دور الرقابة العسكرية في الوقت الحاضر، ثانوياً، فنراه يمنع الإعلام الاسرائيلي من النشر، لكنه لا يستطيع منع صحافيين اسرائيليين يعملون في صحف أجنبية من النشر والتسريب.. ناهيك عن أن الجيش الاسرائيلي له قنواته في الصحافة الدولية كي يُمرّر فيها ما يريد.
مع ذلك، هناك وجهة نظر صحافية في أراضي 48، تفيد بأن ما ينشره الإعلام الدولي عن هجوم “نطنز” لا يستند دائماً إلى مصدر أمني إسرائيلي، فهناك نشر تم في صحف اميركية وغربية بناء على “تكهنات”، وإن كان بديهياً الاستدلال على ان الفاعل هو اسرائيل وأن الهجوم كان “الكترونياً”..
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنه ليس من مصلحة الأمن الاسرائيلي في واقعة “نطنز” المسارعة إلى التسريب كما في العمليات السابقة؛ لأن الهجوم “ضخم” وقد ارتفعت بذلك “فاتورة الانتقام الإيراني” المليئة بالهجمات الإسرائيلية “الموجِعة”. وهنا تخشى تل ابيب نفاد الصبر الإيراني.
يجري ذلك كله بينما تدور خلافات بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الذي يقودها بني غانتس، ورئيس الوزراء بنيامين نتناهو، بشأن جدوى العودة للاتفاق النووي الإيراني، لكن بصيغة معدلة.. فغانتس ومعه عسكريون يشددون على اهمية الاتفاق النووي الإيراني ما دام قد خضع للتعديل وراعى المصالحة الاسرائيلية، بينما يظهر نتنياهو بأنه غير معنيّ بالعودة للاتفاق النووي سواء بصيغته القديمة ولا المعدلة.
لذلك، يظهر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، الزائر لإسرائيل، أنه متوافق مع بني غانتس، اكثر من توافقه مع نتنياهو، بشأن سبل معالجة الملف النووي الايراني. وهذا ما يفسر دافع مكتب نتنياهو بتولي مهمة التسريب لصحيفة “نيويورك تايمز” الاميركية عن استهداف اسرائيل للسفينة الإيرانية في البحر الأحمر أخيراً.
المصدر: المدن