وصفهم بشار الأسد في أكثر من مناسبة بـ “الواهمين” وهددهم باستخدام القوة لاستعادة ما يسيطرون عليه. وزير خارجيته، فيصل المقداد، نعتهم مراراً بـ “العملاء لأميركا وإسرائيل”، وطلب منهم مبعوث الأسد السابق للأمم المتحدة، بشار الجعفري، أن يشربوا حب “الباندول” كي ينسوا مشروعهم.
أما وسائل إعلام نظام الأسد فتكرّس جل وقتها للتأكيد على أن مشروع “الإدارة الذاتية” انفصالي، واصفة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بـ “السارقين لثروات سوريا”، وبخدام المشاريع الأميركية.
لكن وعلى الرغم من قساوة الألفاظ والتخوين الممنهج، إلا أن النظام في دمشق يُعد أكبر المستفيدين من مشروع “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا، القائم حاليا، فكيف ذلك؟.
مسارات التعاون الوثيق بين الأسد و”الإدارة الذاتية”
لا يحتاج المراقب للعلاقة بين الأسد وقوى الأمر الواقع المسيطرة على مناطق شمال شرقي سوريا للبحث كثيرا عن خيوط ودلائل للتأكد من أن كلام بشار الأسد ومسؤوليه في الإعلام يمحوه الفعل على أرض الواقع.
فخلال السنوات الفائتة وتحديدا منذ تأسيس “النظام الاتحادي الديمقراطي في شمال سوريا ” في آذار 2016، بعد اجتماع نحو 200 شخصية، مثلت الأحزاب الكردية النسبة الأكبر على حساب العرب والآشوريين والتركمان والسريان والشيشان، في مدينة رميلان، ولاحقاً تشكيل “الإدارة الذاتية” في أيلول 2018 وقبلها ذراعها العسكرية “قسد” في 2015؛ اتخذ نظام الأسد إعلاميا موقفا رافضا تجاه هذه التشكيلات، لكنه فتح قنوات تواصل خلفية معها.
وشهد عاما 2018 و2019 لقاءات عدة بين أعضاء من “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) ممثلاً برئيسته التنفيذية، إلهام أحمد، و رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، اللواء علي مملوك، بعضها كان بشكل مباشر، وأخرى عبر الوسيط الروسي في قاعدة حميميم، إلا أن هذا التعاون هو الوحيد بين الطرفين الذي يتكلل بالفشل في كل مرة.
وكان آخر تواصل في هذا السياق بينهما، في شباط 2020، حينما قالت إلهام أحمد، إن النظام وافق بوساطة روسية على بدء مفاوضات سياسية، مع إمكانية تشكيل “لجنة عليا” مهامها مناقشة قانون “الإدارة المحلية” في سوريا، والهيكلية الإدارية لـ”الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا”، وذلك خلال لقاء أجرته مع صحيفة “الشرق الأوسط”.
وأضافت أحمد التي زارت دمشق، حينها، أن الروس تعهدوا بالضغط على النظام للقبول بتسوية شاملة، ووعدتهم بترجمة الوعود خلال الأيام المقبلة، لكن حتى هذه الساعة، لم يتم تحريك هذا الملف، وحكم عليه بالفشل كسابقيه.
اقتصاديا.. النفط والدولار والقمح هدايا “الإدارة الذاتية” إلى نظام الأسد
يقول الباحث المختص في الشأن الكردي، بدر ملا رشيد، لموقع تلفزيون إن مصير واردات النفط والغاز لا يزال مجهولاً في شمال شرقي شوريا، وتحكمه تفاهمات بين النظام و”قسد” تعود للعام 2012، والظاهر منه هو إن تأمين وإدارة حقول النفط من قبل “قسد” مقابل حصولها على نسبة من واردات النفط عبر بيعه بشكل مستقل والحصول على بعض مشتقات النفط من مصافي نظام الأسد.
وفيما يتعلق بالعقوبات الأميركية يشير رشيد إلى أن “الإدارة الذاتية” دعت الولايات المتحدة لإعفائها من قانون “قيصر”، وهو ما يفسر التغاضي الأميركي عن شحنات النفط الواصلة لمناطق النظام، ويضيف “أعتقد أن واشنطن تقوم بهذا الأمر لعدة أسباب منها السماح للإدارة الذاتية بتوفير الأموال الضرورية للحكم، والسماح بوصول دفعات نفط للنظام لا تجعله يكون مرتاحا ولا تقطعه بحيث تنهار مؤسسات الحكم المركزية”.
ويخضع نظام الأسد لعقوبات “قيصر” التي لا يختلف اثنان على أنها كبّلته، وحدّت من نشاط حيتان الاقتصاد الذين أفرزتهم الحرب لخدمة الأسد، وعليه كان لابد للنظام من إيجاد طرق للالتفاف على هذه العقوبات التي يقول إنها تسببت في انهيار الليرة السورية وهو ما وظفه لإشراك المدنيين في تحمل أعباء هذه العقوبات، فبدأ برسم سياسات اقتصادية فاشلة، جعلت من السوريين يحتلون مراتب متقدمة في تدني المستوى المعيشي، فباتوا يقفون لساعات طويلة في طوابير تمتد على مد النظر للحصول على الوقود وعلى المواد الغذائية، على رأسها الخبز.
في المقابل تقول واشنطن إن هذه العقوبات لا تستهدف المدنيين، وإنها مخصصة لحث الأسد على التوقف عن سياساته القمعية.
إحدى الأيدي التي امتدت لنجدة نظام الأسد المتهالك، هي يد “الإدارة الذاتية”، فمن مناطقها يتم دعم الأسد بالدولار والنفط والمحاصيل الزراعية.
تتعدد أوجه الفائدة الاقتصادية التي تمنحها “الإدارة الذاتية” لنظام الأسد، حيث رسخ الطرفان على مدار السنوات الماضية عمليات تبادل مهمة في هذا القطاع، في مقدمتها النفط.
فقد أوجد النظام ممرا معتمدا للنفط رغما عن الكثافة الأميركية في المنطقة، بالاتفاق مع “قسد” عبر وسطاء، نشط في هذا السياق حسام قاطرجي، الذي بات اسمه مرتبطا بعمليات إيصال النفط الخام من “قسد” إلى الأسد.
وفي هذه الجزئية نستحضر تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” المنشور في أيلول 2019 والذي وثق عمليات التبادل هذه، وجاء فيه أن الحقول النفطية الخاضعة لسيطرة “قسد” تنتج ما يقارب 14 ألف برميل يوميا، ونقل التقرير شهادات حصلت عليها الشبكة الحقوقية، حينئذ، أكدت أن “قسد” تبيع برميل النفط الخام لنظام الأسد بقرابة 30 دولارا، أي بعائد يومي يقدّر بـ 420 ألف دولار، وبعائد شهري يقدر بـ 12 مليون و600 ألف دولار، وبعائد سنوي يقدر بـ 378 مليون دولار، باستثناء عائدات الغاز.
التقرير أشار إلى وجود تنسيق بين “قسد” والنظام، منذ منتصف عام 2012، عندما انسحب النظام من محافظة الحسكة، إذ بدأت تلك العمليات منذ نهاية عام 2017، عندما أحكمت “قسد” سيطرتها على آبار وحقول النفط والغاز في محافظة دير الزور، حيث تكون عمليات التزويد من حقلي رميلان والسويدية في محافظة الحسكة، اللذين لم يتوقف إنتاجهما منذ منتصف 2012.
وحتى تتم عملية التبادل هذه، فإن على حسام القاطرجي، تحريك أسطول الشاحنات الخاص به والمتمركز في الرستن وسط سوريا، حيث تقوم الشاحنات بزيارة مناطق “قسد” نحو مرتين في الشهر، تحمل من هناك النفط الخام، وتعود بجزء منه مكرر كي تستخدمه “الإدارة الذاتية”.
ورصد موقع تلفزيون سوريا، قبل أيام في تقرير تضمن شهادات خاصة من سائقي هذه الشاحنات، رصد عمليات نقل النفط تلك، وكيف يتم نقلها للتكرير في مصفاة حمص، وكيف تقوم “قسد” بمرافقة الشاحنات على طريق عين عيسى- تل تمر، وهذا الطريق يعج بالدوريات الأميركية.
الدولار نهر متدفق:
يقول الباحث بدر ملا رشيد، إن هناك عدة نواحٍ يستفيد منها النظام فيما يخص واقع الحكم في منطقة شمال شرقي سوريا، ومنها موضوع الدولار، الذي يقدم للمنطقة سواء عبر تجارتها مع بقية مناطق سوريا، أو من الحوالات القادمة من خارج سوريا، أو البعض من مصاريف المنظمات التي تقوم بصرفها في المنطقة، لكنه لفت إلى أن معظم أهالي المنطقة يفضلون استثمار أموالهم من العملة الأجنبية في المنطقة نفسها، سواء عبر الإبقاء عليها كعملة صعبة او استثمارها في العقارات والأراضي، وهو ما تم ملاحظته من ارتفاعٍ كبير في سعر متر البناء الذي يصل لـ 1500 دولار في بعض أحياء مدينة القامشلي على سبيل المثال.
وفي هذا السياق، كشف مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا، قبل أيام، نقل نظام الأسد شحنة من الدولارات تقدر بأكثر من 50 مليون دولار إلى دمشق عبر مطار القامشلي الدولي.
المصدر أكد أن نظام الأسد يسحب ملايين الدولارات بشكل شبه يومي من أسواق مدن محافظة الحسكة، معتمدا على شبكة من التجار وصرافي العملة يهيمنون على سوق القامشلي، إذ يقومون بشراء الدولار وضخ العملة السورية للأسواق من فئتي الـ 5000 والـ 2000 ليرة سورية.
وتتداول أسواق الحسكة والقامشلي تتداول أكثر من 100 مليون دولار يومياً بين عمليات صرف وحوالات مالية قادمة من خارج البلاد، خاصةً مع نشاط الحركة التجارية في معبر سيمالكا الحدودي مع إقليم كردستان العراق، وهذا النشاط دفع النظام للبحث عن حديقة خلفية يحصل منها على القطع الأجنبي المفقود في خزينته بدمشق.
وبالرغم من تدهور قيمة الليرة السورية منذ مطلع العام الماضي، إلا أن مناطق “الإدارة الذاتية” تشهد بروز رؤوس أموال عديدة تمثل مصدرا للقطع الأجنبي، إلى جانب عمل عشرات المنظمات الدولية ومؤسسات إعلامية في المنطقة، وأموال المغتربين التي تضخ من الخارج عبر الحوالات والاستثمارات بشكل شهري إلى هذه المناطق.
المحاصيل الزراعية سلة “قسد” بيد الأسد:
كثيرة هي التسجيلات المصورة التي نشرت خلال الأعوام الماضية توثق عمليات نقل المحاصيل الزراعية من مناطق “الإدارة الذاتية” إلى مناطق نظام الأسد.
وفي الأساس الأمر لا يحتاج إلى توثيق وبحث، فهيئة “الاقتصاد والزراعة” شمال شرقي سوريا تبيح للمزارعين بيع محاصيلهم للنظام.
حدث ذلك في أيار عام 2019 حينما أعلنت ذات الهيئة في بيان، أنها لا تمانع بيع المزراعين لمحاصيلهم إلى النظام.
أما في عام 2020، فقد رفضت “الإدارة الذاتية” بيع النظام محاصيل المزارعين، وحاولت إجبار المزارعين على تسليم القمح في المناطق التي تسيطر عليها، ما أدى إلى ردود فعل غاضبة، لأن المزارعين سيجبرون على بيع المحصول بالتسعيرة التي تريدها “الإدارة الذاتية” والتي تقل عن تسعيرة النظام، ومع استمرار المزارعين بالاحتجاج تمكنوا من بيع محاصيلهم خارج مناطق “الإدارة الذاتية” لكن بعد أن اشترطت عليهم أن يتم تأمين جميع حاجة المنطقة من المحاصيل.
ولا بد لنا هنا من ذكر الطريق التجاري الذي افتتحته روسيا في أيار 2020، بين مناطق نظام الأسد و”الإدارة الذاتية” ومركزه الطريق الدولي “M4” ( حلب- الرقة- عين عيسى- تل تمر- القامشلي)، هذا الطريق أمّنت روسيا من خلاله متنفسا تجاريا للنظام، وجاء نتيجة تفاهم مع “قسد” إذ تتكفل روسيا بحماية القوافل المدنية التي تنطلق بين عين عيسى وتل تمر على طريق “M4” المرصود ناريا من قبل الجيش التركي في منطقة عملية “نبع السلام”.
ووفق تحليل بياني أعدّه موقع “COAR ” بعد شهرين من افتتاح هذا الطريق، فإن النشاط التجاري عبر هذا الطريق يركز على مبدأ قانون العرض والطلب، وعلى العلاقات بين الأطراف المؤثرة في المنطقة، إذ يستورد النظام من مناطق “الإدارة الذاتية” النفط الخام، بشرط إعادة جزء منه على شكل مواد مكررة مثل المازوت، كما يصدّر معظم القمح من “الإدارة الذاتية” الى مناطق النظام مقابل إعادة الطحين، إضافة إلى وجود حركة لتجارة الخضار والفواكه والمواد الصناعية، فأسواق “الإدارة الذاتية” متعطشة للمنتجات الصادرة من معامل مناطق معامل نظام الأسد
عسكريا.. “قسد” والأسد في خندق واحد بوجه الجيش الوطني السوري
في سياق التعاون العسكري، بين الطرفين، يقول الباحث بدر ملا رشيد، إن النظام اعتمد واستفاد من مناطق شمال شرقي سوريا خلال السنوات الماضية، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن العلاقة بين “قسد” والنظام باتت تنافسية تتمظهر من خلال حالات التضييق المتبادل من الطرفين.
ويجمع النظام و”قسد” منذ تشرين الأول 2019 تحالف عسكري ضد الجيش التركي والجيش الوطني السوي، وسمح هذا التحالف لقوات نظام الأسد بدعم روسي من إعادة تموضعها شمال شرقي سوريا.
وفي أعقاب عملية “نبع السلام” التركية، قال قائد “قسد”، مظلوم، في تصريحات صحفية إنه وقع اتفاقية مع النظام حول انتشار قوات الأخير في نقاط التماس مع القوات التركية.
وأضاف أن الاتفاقية وقعت بينه وبين مملوك الذي وقع باسم النظام بضمانة روسية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا