عاد الاهتمام الإسرائيلي بالتطورات السورية منذ اندلاع ثورتها في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات إلى جملة أسباب وعوامل أساسية، من أهمها: القرب الجغرافي، وحالة الحرب “المعلنة” معها، وخشيتها أن تؤدّي لانهيار وقف إطلاق النار، أو تسخين الجبهة في الجولان، فضلا عن أهمية دور سوريا الإقليمي، وتأثيرها في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وصولا إلى القلق الدائم على مصير ما بحوزتها من احتياطي كبير من الأسلحة والصواريخ غير التقليدية.
ورغم استبعاد المحافل الإسرائيلية أن يشن النظام السوري حرباً على إسرائيل، للهروب من الاستحقاقات الداخلية عقب الثورة الشعبية، لكنها في الوقت ذاته حذرت من مخاطر الفوضى في سوريا، لأنها ستوفر مناخاً مناسباً لوقوع الأسلحة الكيماوية أو الصاروخية التي يمتلكها النظام بأيدي منظمات معادية، وهي تنظر بعين حذرة لنقل وسائل قتالية محطمة للتوازن من سوريا إلى لبنان.
وقد كشف النقاب في إسرائيل أوائل 2015 أن اندلاع الثورة السورية عطل عملياً مفاوضات حثيثة بين الجانبين للتوصل إلى اتفاق بينهما، يقوم على انسحاب إسرائيلي من هضبة الجولان إلى خطوط 1967، مما يحيّد المحور الإيراني السوري وحزب الله، حيث قاد المفاوضات وزير الدفاع السابق إيهود باراك بمعرفة مجموعة صغيرة جداً من السياسيين.
كما دأبت الأوساط الإسرائيلية في الآونة الأخيرة على الحديث عن استراتيجيتها المعتمدة تجاه الأزمة السورية، وتمثلت في فرض الخطوط الحمراء التي أعلنتها كعنصر أساسي لأمنها القومي، وبنفس القدر من الأهمية، اعتمدت تنفيذ النشاطات الهجومية بفاعلية، دون جر إسرائيل للحرب في سوريا أو لبنان.
تغيرت الخطوط الإسرائيلية الحمراء تجاه سوريا بشكل طفيف في السنوات العشر الماضية؛ تماشيا مع التطورات الحربية والسياسية، لكن نسختها الأخيرة تمثلت بأن أول خط أحمر هو الرد على أي انتهاك لأمن إسرائيل، وثانيا منع استخدام سوريا للأسلحة غير التقليدية الكيميائية، ومنع نقلها إلى لبنان.
الخط الأحمر الثالث يتمثل بمنع أو تعطيل قوة نقل الأسلحة عالية الجودة، الكاسرة للتوازن، من إيران إلى سوريا ولبنان، فضلا عن منع وتعطيل نقل الأسلحة عالية الجودة من الجيش السوري وصناعته العسكرية إلى لبنان، لمنع تعزيز وتحسين قدرات حزب الله، أو المندوبين الإيرانيين، ومنع الأضرار المدمرة للجبهة الداخلية المدنية والعسكرية في إسرائيل.
أما الخط الأحمر الرابع فيتعلق بمنع أو تعطيل نقل الأسلحة، وبشكل أساسي صواريخ أرض- جو المتطورة من إيران إلى لبنان وسوريا، التي قد تمثل خطرا وتحدّ من حرية إسرائيل في التفوق الجوي والاستخباراتي في الساحة الشمالية، أما الخط الخامس، فهو منع إقامة جبهة إيرانية ضد إسرائيل في سوريا على غرار الجبهة التي أقامها حزب الله في لبنان بمساعدة إيرانية.
الخط الإسرائيلي السادس يرتبط بمنع إنشاء جيوش معادية لإسرائيل، من مختلف الطوائف والمذاهب، قرب الحدود مع إسرائيل، بطريقة تسمح لهم بتنفيذ عمليات عبر الحدود على حين غرة، والخط السابع منع وتعطيل إنشاء واستخدام الممر البري من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان.
لقد تم تنفيذ هذه الخطوط الحمراء بوسائل حركية وناعمة، وسرية أحيانا، دون تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان يتحمل الجيش الإسرائيلي مسؤولية بعضها إذا رأى أنها تخدم الحرب الإعلامية على التوسع الإيراني في المنطقة.
عملت إسرائيل في المناطق القريبة من حدودها مع سوريا، لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول منع تدفق السوريين والفلسطينيين الذين سيصطفون على حدود الجولان، وربما في لبنان، وهذا مشابه لما حدث في تركيا والأردن ولبنان التي اجتاحتها ملايين السوريين الذين فروا من بلادهم، وخلقت أزمة اقتصادية وصحية في البلدان التي منحتهم اللجوء.
أما الهدف الإسرائيلي الثاني فهو تعطيل إنشاء جبهة إيرانية أخرى في سوريا، وإحباط أي هجوم حدودي، سواء من جانب مجموعات الإسلام الجهادي السني، كتنظيم الدولة والقاعدة وجبهة النصرة، أو من جانب حزب الله والميليشيات العاملة في خدمة إيران.
لقد تركزت الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا خلال السنوات الماضية في المجال الأمني، فالجيش السوري اليوم ضعيف ومنهك، ولن يشكل تهديدا خطيرا لإسرائيل بعد سنوات، رغم أنه اكتسب خبرة قتالية، وحصل على معدات حديثة من روسيا، كما تعمق اقتحام المخابرات الإسرائيلية لسوريا، وباتت تتمتع حاليا بتفوق استخباراتي في أراضي سوريا والدول المجاورة، ما يسرع التحذير من النوايا العدائية والأنشطة السرية لإيران.
مع العلم أن الجيش الإسرائيلي عطل بشكل كبير، وأبطأ استخدام الأسلحة عالية الجودة من سوريا وحزب الله، فيما تسير عملية إقامة جبهة إيرانية إضافية على الأراضي السورية بوتيرة أبطأ بكثير مما خطط قاسم سليماني قبل اغتياله، لكن الإيرانيين يواصلون جهودهم لتحسين دقة الصواريخ الباليستية، فضلا عن معدات حزب الله في الطائرات دون طيار وصواريخ كروز.
في المجال السياسي، أقامت إسرائيل حالة من التعايش الوظيفي؛ لمنع الاحتكاك مع القوة الروسية الحامية لنظام الأسد، رغم أن الوجود الروسي في سوريا يقيد بشكل كبير حرية العمل الإسرائيلية هناك.
ولذلك حاولت الأوساط الأمنية الإسرائيلية البحث في التداعيات الإقليمية للتطورات السورية، من خلال تقديم قراءة إسرائيلية صحيحة لهذه التطورات، وتأهّب أمني، وحوار وتنسيق مع الولايات المتحدة وشركاء آخرين، وانفتاح تجاه الفرص الكامنة في الوضع الجديد، لأن تداعيات ما يحصل في دمشق يتجاوز كثيرا سوريا وإسرائيل وصولاً إلى المحيط الجيو-سياسي مما قد يفيد تل أبيب.
ورغم العداء “العلني” بين سوريا تحت نظام الأسد، وإسرائيل، لكن معظم خبراء الشؤون الأمنية يفضلون بقاء عائلة الأسد المتمثلة في حزب البعث في الحكم باعتبارها شريكاً يمكن التنبؤ بتصرفاتها، ولا يتوقع أحد في تل أبيب أن الاضطرابات ستفرز واقعاً أفضل، فإسقاطه سيؤدي لحالة من عدم الاستقرار في المنطقة.
يتمثل التفضيل الإسرائيلي في مآلات الثورة السورية بوجود محيط ضعيف ومتخلف مادياً ومعنوياً، وقمعي ومتفكك، لمنع قيام مشروع نهضوي للعالم العربي، لأنه سيهدد جوهر المشروع الإسرائيلي بكل مركباته، ولذلك بدأت التقديرات الإسرائيلية مبكرة بزوال النظام السوري، عبر التصريحات السياسية والأمنية والعسكرية، وواصلت مواكبة الأحداث السورية، وتباينت الآراء بين السياسيين والعسكريين والمحللين حول اليوم الذي سيلي الأسد، إذا خرج إلى حيّز التنفيذ.
ذات التقديرات الإسرائيلية تحدثت أن التغيير في سوريا قد لا يكون لمصلحة إسرائيل، فالمرحلة التي تلت اندلاع الأحداث السورية لم تكن بالضرورة باعثة على التفاؤل بالنسبة لها، فهناك ما هو أهم من سقوط الأسد، وهو كيفية سقوطه، والظروف التي سيسقط فيها، لأن سوريا ليست فقط حليفة إيران، بل هي تحد إسرائيل، ولديها قدرات عسكرية غير تقليدية، ويبقى السؤال الأهم عن طريقة نهاية المواجهة في سوريا، وهل سيكون هناك نظام وانضباط في الميدان بعد سقوط الأسد، إن سقط فعلا!
من التحديات التي رافقت القراءات الإسرائيلية منذ اندلاع أحداث سوريا، الطلب من الجيش الإسرائيلي أن يستعد لاحتمال أن تسود حالة فوضى عقبها، بسبب عدم وجود شخصية مركزية في المعارضة السورية تسيطر على الوضع، فعندما يكون عدوك واضحاً ومستقراً، فإنك تضعه في إطار سلوكي معين على ضوء تصرفاته في الماضي والحاضر، لكن عندما يتفكك هذا العدو يصبح الوضع خطراً، ولذلك على الجيش الاستعداد لمواجهة أي احتمال.
قدرت التقديرات الأمنية الإسرائيلية أنه في حال انهارت الهيكلية العسكرية للجيش السوري، فلا يمكن معرفة ما سيجري على أرض الميدان، ومن سيتحكم بمن، وبأي أدوات سيتحكمون، ولا أحد يعرف أين سيتم تهريب الأسلحة، لأن سوريا تمتلك قدرات صاروخية وصواريخ تحمل رؤوساً كيميائية، والسؤال من سيتحكم بها، وهو سؤال لا يقل أهمية عن كيفية سقوط النظام السوري، ومن سيرثه.
تمثل الموقف الإسرائيلي من الأحداث السورية فيما نقله رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية السابق أفيف كوخافي، وهو رئيس أركان الجيش الحالي بقوله خلال زيارته لمقر الأمم المتحدة في نيويورك أن “إسرائيل تفضل التعامل مع عدو تحسن معرفته، على مواجهة مجهول يقتضي إعادة تكوين شبكة مصادرها الاستخباراتية”.
وفي ظل اشتعال الموقف الميداني في سوريا، واصل الجيش الإسرائيلي بناء جدار فاصل، وزرع ألغام في هضبة الجولان، وأعد خطة متكاملة في حال تعرضت سوريا لهجوم خارجي، ومواجهة أي تصعيد في المنطقة، لأن زوال نظام الأسد سيكون له تبعات سلبية وإيجابية على إسرائيل، فرغم أنه جزء أساسي من المحور الإيراني، لكنه من جانب آخر يحافظ على هدوء الحدود معها، ولأن تل أبيب تعرف كيف تتعامل مع الأسد وكبار المسؤولين الموجودين في دمشق، لكنها لا تعرف كيف ستتعامل مع سوريا أخرى في حال تغيير نظام الحكم، مما سيضعها على أتون بركان ملتهب قد ينفجر في أيّ وقت.
وجدت المنظومة الأمنية الإسرائيلية أن للأزمة السورية آثاراً مهمةً على الوضع الاستراتيجي لإسرائيل، وتوجد فيها مخاطر جمة، ومنها: إذا وقعت مخزونات الصواريخ والسلاح الكيماوي في أيدي خطيرة، أو إذا حاول الحكم المنهار تشديد المواجهة مع إسرائيل في سبيل البقاء، أو إذا استخدم حلفاءه في النزاع مع إسرائيل لكسب الشرعية الداخلية، أو إذا انهارت مؤسسات الدولة السورية، واستفاق الكيان الإسرائيلي على جار يشبه الصومال، أو أفغانستان في مرحلة ما، بحيث تهيئ رخاوة البيئة السورية لعمليات تسلل منها إلى الكيان عبر الحدود المشتركة بينهما.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا