تحاول إدارة الرئيس جو بايدن في المئة يوم الأولى لها في البيت الأبيض، تغيير بوصلة سياسات أميركا تجاه السياسة الدولية بشكل مغاير لما فعلته إدارة الرئيس دونالد ترامب، ابتداء من الإعلان الصريح عن رغبتها في محاسبة روسيا، والمفاوضات القاسية التي تجري حالياً مع الصين حول تقاسم الاقتصاد العالمي، ولعل هذين الملفين هما ما يحكمان عشرات الملفات الفرعية في الشأن الدولي ومنها ما يخصنا في الدول العربية وعلى رأسها المسألة السورية التي باتت تفصيلاً في ميزان المفاوضات العالمية منذ 2013، وما تلاه من تدخل روسي عسكري في سوريا…
تعتبر الولايات المتحدة ومنذ الخمسينيات بعيد حرب 1956 الشرق الأوسط منطقة نفوذ خاصة بها، تمتد من المغرب وحتى إيران وأفغانستان، وكانت المنافسة مع الاتحاد السوفييتي فيه تأخذ شكل المد والجزر فيه تبعاً للأزمات السياسية وعلى الرغم من وقوع عدد من الدول في نطاق التحالف السوفييتي سابقاً مثل مصر عبد الناصر وسوريا حافظ الأسد واليمن الجنوبي، فإن الولايات المتحدة كانت على الدوام صاحبة الكلمة العليا في سياسات تلك الدول الخارجية وعلاقتها مع المحيط وخصوصاً في الملف الإسرائيلي.
ومع احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، صرحت وزيرة الخارجية الأميركية علانية بنية الولايات المتحدة ببدء التغيير في الشرق الأوسط، عبر سياسة الفوضى الخلاقة التي ستعيد تشكيل المنطقة بكاملها، وبالفعل بدء التعفن السياسي المتحقق في البلاد العربية بالانفجار مع ربيع 2011، ولكن تخاذل فريق باراك أوباما عن إدارة الملف السوري بالذات سبب كثيرا من الأخذ والرد في الشرق الأوسط وكان وصمة عار تداولها الحقوقيون في أروقة المؤسسات الدولية ضد أوباما وفترته… ولكننا اليوم نجد أن نائب أوباما وهو بصدد الشهور الأولى مما سمّوه الولاية الثالثة لأوباما أمام مفترق أساسي في الانفلات الذي أطلقه أوباما في المنطقة، مع بدء أزمة اليمن واستعار التدخل الإقليمي في سوريا، وتفاعل أزمات العراق ولبنان، فجو بايدن أعطى الأولوية المطلقة لإدارته في التحالف مع أوروبا وبالتالي نصب العداء لروسيا وإدارة بوتين، بينما فتح الأبواب للحوار الاستراتيجي مع الصين بموافقة ومباركة أوروبية.. فالأوروبيون لم ينسوا ما فعله بوتين في أوكرانيا وبيلاروسيا وتحالفه مع أردوغان وإيران، وكذلك بايدن الذي أدلى بتصريحه الناري (بوتين قاتل) الذي قلب العلاقات رأساً على عقب، لذلك كان لا بد لبايدن من الانتهاء من الملف الشرق أوسطي المتعب، وتلك الحروب التي لا تنتهي ولا يبدو أن المتورطين فيها قادرون على إنهائها، مثل إيران وتركيا وروسيا والدول العربية، وحتى أوروبا ذاتها، فكانت كلمة السر السحرية، حلا شاملا في المنطقة يناسب الجميع، يتمثل الحل في إيقاف حرب اليمن بما يضمن عودة الحكومة الشرعية إلى اليمن بعد (تكسير الحوثيين) ونزع فكرة انتصارهم من جدول المفاوضات القادمة، وبما يضمن خروج إيران من اليمن ومن الخليج العربي، أما الجزء الثاني من الحل الذي أعطى بنوده الرئيسة وزير الخارجية الأميركي بلينكن، فهو خروج إيران أيضاً من سوريا، وإفساح المجال لحل سياسي يسمح بتغيير رأس النظام السوري، والإبقاء على النظام السوري المتهالك بعيداً عن إيران و قريباً من روسيا ودول عربية تضمنه وتسمح له بالانخراط في سياسات تتحكم هي بها.. ولكن الحل يستمر كذلك للخروج بحكومة لبنانية وعراقية بعيدتين عن النفوذ الإيراني ولكن بموافقة حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق على تلك الحكومات الاختصاصية، كل ذلك سيكون للوصول إلى ذروة الاتفاق المتمثلة في إحياء الاتفاق النووي مع إيران مع ضمان بند يقيد سلاحها الصاروخي، ويكون تورطها في الإقليم قد حقق تلقائياً فسح الحلول المرحلية للدول التي تسيطر عليها إيران بما يشبه التقاسم الذي اقترحه أوباما على مجلة أتلانتيك الأميركية وسمي وقتها بعقيدة أوباما.
جو بايدن يعتقد بأن لا مصلحة لأحد في الحرب، ولا مصلحة لأحد كذلك في استمرار الانهيار الاقتصادي والعقوبات في المنطقة التي إن انهارت ستخلق عشرات الأزمات الجديدة بإشراف إيران التي ستدير الخراب مجدداً، مما قد يؤثر على تركيا وروسيا مستقبلاً إن حصل انفلات (جهادي) ما.. بينما تفضل الصين تاريخياً الاستقرار السياسي ضاربة عرض الحائط بماهية ذلك الاستقرار حتى وإن كان ينطوي على دكتاتورية أو قمع سياسي.
إن تصفير مشكلات الشرق الأوسط سيفتح الباب لإدارة بايدن بالتفرغ لمواجهة روسيا بشكل جيد، أو للتفاوض مع الصين بروح مختلفة، فهل ستعرقل روسيا تلك العملية التي انطلقت من ليبيا وتشهد تسخين المشهد في سوريا واليمن، أم أن قسمتها من المنطقة قد تمت الموافقة عليها، بعد أن سرقت منها منذ مئة عام بالضبط على يد مارك سايكس وجورج بيكو في عام 1916؟ وها هي تتدخل عسكرياً مجدداً للمطالبة بها.
يعتقد بعض المراقبين بأن الجميع قد أنهك من أزمات المنطقة وبأن روسيا تحديداً لا قدرة لديها على الاستفادة من الكنز السوري إلا برفع العقوبات عن النظام الذي تورط في ملفات غير منتهية تتعلق بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سنوات الثورة وما تلاها من حرب أهلية وانتهاكات بين الأفرقاء برعاية روسية، لذلك رغم أن روسيا تعلم أن إنهاء الحروب في الشرق الأوسط يتوجه أساساً ضدها، إلا أن خبث لافروف وحنكته جعلاه يفكر في إعادة تشكيل تحالفاته انطلاقاً من عداء عدد من الأنظمة في المنطقة لإدارة بايدن نفسها، وما تشكيل تحالف يجمع تركيا ودولاً عربية وإسرائيل وروسيا وربما الباكستان ومصر والمغرب، إلا هروب إلى الأمام في محاولة تشكيل جبهة ضغط على إدارة بايدن التي بدأت بنكء جراح ملفات حقوق الإنسان وملفات حرجة في تلك الدول ابتداء من المغرب مروراً بمصر والسعودية وإسرائيل واليمن وسوريا والباكستان وصولاً إلى روسيا، إنه تحالف المتضررين من سقوط ترامب، يقابله تحالف الراغبين بصعود بايدن من الأوروبيين والصين وكندا وأستراليا…ستقدم الأيام والشهور القادمة لنا نتائج لذلك الصراع المتشكل القائم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا