لقيت الزيارة الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد لليبيا ترحيباً واسعاً في كلا البلدين الجارين، وهي الزيارة الأولى لرئيس تونسي لطرابلس منذ سقوط نظامي بن علي والقذافي، وذلك برغم التواصل الذي لم ينقطع بين الفاعلين هنا وهناك. كما حظيت هذه الزيارة باهتمام إقليمي ودولي، عبر عنه سفير ألمانيا في ليبيا أوليفر أوفتشا الذي أبدى سروره برؤية هذا “الترحيب المبكر” بالرئيس التونسي من رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في طرابلس، واعتبر أن ذلك سيدفع باتجاه مزيد التعاون الليبي التونسي في مجال التجارة والتدريب والسياحة، مؤكداً أن ألمانيا مستعدة لدعم مبادرات بين الأطراف الثلاثة.
ويبدو من خلال الترحيب الكبير في طرابلس بساكن قرطاج أن الجارين قادران على الذهاب بعيداً في علاقتهما في غياب “الإخوان المسلمين” الذين أدت سيطرتهم على القرار في طرابلس وفي تونس إلى تدهور العلاقات الثنائية. وبدا أيضاً أن حكام ليبيا الجدد أكثر رصانة من أسلافهم ولديهم رغبة حقيقية وصادقة في تطوير العلاقات بين الطرفين، مدركين حقيقة التاريخ الذي لم تستطع الجغرافيا والخرائط الاستعمارية الوهمية أن تغيّر فيه الكثير.
فخلال العصر القرطاجي البونيقي، كان الغرب الليبي وإلى حدود خليج سرت جزءاً من جمهورية قرطاج التي امتد نفوذها إلى باقي سواحل شمال أفريقيا من جهة الغرب حتى مضيق جبل طارق، وإلى شبه الجزيرة الإيبيرية وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وجزر كريت ومالطا وكورسيكا وسردينيا والباليار في البحر المتوسط. وفي العصر الروماني كانت مقاطعة أفريكا الرومانية تضم تونس الحالية وغرب ليبيا وشرق الجزائر، وكذلك الشأن بالنسبة الى أفريقيا الإسلامية. ولم يفصل الغرب الليبي عن تونس إلا مع احتلال العثمانيين لشمال أفريقيا، بخاصة بعدما وهنت الدولة الحفصية في تونس بسبب ضربات الإسبان.
لذلك، يستشعر التونسيون باستمرار، وبرغم الخرائط الجديدة التي خطها العثمانيون وصادق عليها الاستعمار الغربي الذي خلفه، مع بعض التعديلات، أن سكان تونس وغرب ليبيا وشرق الجزائر شعب واحد في ثلاث دول، وأن ليبيا والجزائر بالنسبة الى تونس هما العمق الإستراتيجي وأنه لا مفر من تطوير العلاقات باتجاه الوحدة والاندماج، ويشاركهم الجاران هذا الشعور وتلك الرغبة، وهو ما أكده حكام ليبيا الجدد لدى استقبالهم الرئيس التونسي الذي كان أول رئيس يزور طرابلس بعد مصادقة البرلمان الليبي على الحكومة الجديدة، في خطوة رمزية وهامة.
فلدى الطرف الليبي رغبة حقيقية في استئناف العلاقات مثلما كانت قبل إطاحة نظامي بن علي والقذافي وتفعيل الاتفاقيات التي أبرمت في السابق في شتى المجالات مع تطويرها حتى يستفيد الجانبان من الإمكانات الموجودة لدى كل طرف. ويبدو أن الجهات الخارجية الماسكة بزمام الأمور في ليبيا، وخصوصاً الدول الكبرى، لا تمانع في استفادة الليبيين من الخبرات التونسية في عملية إعادة الإعمار، بخاصة أن تونس بمطاراتها التسعة وموانئها القريبة من العاصمة طرابلس وشركاتها المختصة وخبرائها في كل ما تحتاجه عملية الإنشاءات والتعمير، قادرة على توفير الدعم اللوجستي للشركات الغربية الكبرى التي سيكون لها نصيب الأسد في عملية إعادة إعمار ليبيا، وذلك في إطار شراكة حقيقية.
فلقاء الإرادات الخيرة بين التونسيين والليبيين ليس كافياً لتحقيق الطموحات والأحلام بين الشعبين ما لم يكن ذلك في إطار رضا القوى الكبرى والفاعلين الأساسيين في الملف الليبي، وما لم يتعارض هذا التطوير للعلاقات الثنائية مع مصالح هذه القوى. فالواقعية تقتضي أن يقنع التونسيون والليبيون نظراءهم الغربيين بأن تعاونهم المرتقب لن يمس بمصالح من دفعوا الغالي والنفيس لقلب الأمور رأساً على عقب في بلد عمر المختار منذ سنة 2011 وأسقطوا نظام القذافي بالتوماهوك والأسلحة الباهظة الثمن.
ويبدو أن هذه القوى بحاجة إلى الدعم التونسي في عملية إعادة الإعمار حاجتها إلى نفط ليبيا وثرواتها، لذلك فإن هناك من يذهب إلى التأكيد أن دعوة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى زيارة ليبيا من الحكم الجديد في بلد عمر المختار كانت بدفع من قوى غربية، باعتبار أن رمزية أن يكون ساكن قرطاج هو أول رئيس يزور ليبيا بعد تنصيب الحكومة الجديدة هو رسالة إلى أطراف عديدة، برأيهم، مفادها أن “تونس الدولة” ممثلة بقيس سعيد وليس بالإخوان هي حجر الزاوية في عملية إعادة إعمار ليبيا، وما على التونسيين إذا كانوا راغبين بالفعل في أن يكون لهم دور في تحقيق الاستقرار في جارتهم الشرقية إلا أن يبعدوا هؤلاء الذين كانوا باستمرار مصدر توتر في العلاقات بين البلدين.
ولعل دعوة تونس إلى مؤتمر برلين حول ليبيا بصورة متأخرة جداً خلال السنة الماضية بعدما كان في الحسبان أنه سيتم تجاهلها، كانت رسالة واضحة مفادها أن تونس الإخوانية، التي دعم إخوانها لاحقاً فائز السراج وتركيا في حربهم مع خليفة حفتر، لا مكان لها في جهود إحلال السلام في ليبيا. لكن مواقف الرئيس قيس سعيد التي يقف فيها على مسافة واحدة من كل الفرقاء الليبيين يبدو أنها لاقت الاستحسان محلياً ودولياً فترجمت باحتضان تونس لإحدى جلسات الحوار الوطني الليبي ثم لاحقاً بأن يكون رئيس الخضراء هو أول الواصلين إلى طرابلس والمهنئين بحكمها الجديد وبداية استقرار الأوضاع فيها.
المصدر: النهار العربي