خلال عقود من حكم آل الأسد لسوريا حكماً عسكرياً أمنياً، نشأت في سوريا حالة بنيوية كاملة من الخوف سيطرت على كافة موارد الحياة ومآلاتها ووصمت السلوك الشعبي برمته حيال انتهاكات النظام السوري، وقامت مؤسسات الدولة بتعميق بنية الخوف لدى كافة الشعب السوري وإحالة مشاعر الاحتجاج إلى حالة من التغاضي العام، فكانت موارد تلك البنية القائمة على الخوف تتقاسمها عدة جهات:
الجهة الأولى: الدولة وأجهزتها وأفرعها الأمنية
قامت الدولة السورية على نظام الخفر ونشر حالة من الخوف الوقائي بين الناس في أعقاب الاعتقالات السياسية اللامتناهية التي شهدتها معتقلات النظام السوري، فمن السهل تلفيق التهم للمعتقلين والتي تراوحت بين الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين أو التخابر مع جهات معادية للدولة، أرست تلك الترتيبات الأمنية ونشر القمع والعنف بين صفوف المعتقلين السياسيين عرفاً عاماً قوامه بأن أي انتقاد سياسي للنظام العسكري والأمني القائم يفضي لإحدى اثنتين إما الاعتقال والإخفاء القسري وإما العنف الجسدي الذي يذهب لأقصاه حتى يضمن النظام تخلي المقموع بهذه الطرق عن أي فكر ناقد للنظام القمعي العنفي، وحتى يكون عبرة رادعة لكل من تسول له نفسه انتقاد الحالة القمعية العامة.
أصبحت بذلك المعتقلات الأسدية تعيد إنتاج الخوف بين الناس حين يخرج من يخرج منها وهم قلة قليلة ليخبروا الآخرين بحالة التعذيب والعنف التي تعرضوا لها بذلك يتم ردع أي محاولات فردية لانتقاد النظام القمعي.
الجهة الثانية: المدارس والجامعات
تعرضت الأجيال السورية لمناهج تعليمية وتنشئة تعليمية سياسية قائمة على تعميق بنية الخوف لدى الأجيال من القائد الفرد الخالد والذي توحي الكثير من المناهج الوطنية والقصائد المدرسية بأنه قوام الدولة السورية وبأن أي اهتزاز لمكانته المهيمنة بين الناس قد تفضي لانهيار الدولة ومؤسساتها، وقد أفلحت وزارات الداخلية والنظام الأمني حين أشرفوا على وضع المناهج التعليمية في عملية تعميق الانصياع الفكري للقائد الواحد، كذلك حالة الفساد في المؤسسات التعليمية التي جعلت مقياس الترقي والترفع العلمي والأكاديمي مشروطاً بالولاء المطلق للديكتاتور، بذلك شهدت سوريا خلال عقود وما زالت تشهد ترقيات في المؤسسات الأكاديمية والتعليمية على أسس أمنية سابقة على الاستحقاق الفكري والمنجز الأكاديمي المحكم، بذلك أصبحت المؤسسات التعليمية والأكاديمية أماكن لإعادة إنتاج سلطة الديكتاتور على أهم موارد التغيير في المجتمعات وهم المعلمون وأساتذة الفكر.
شهدت الحركة التعليمية في المدارس والجامعات حالة من الترويض الفكري والعلمي وانتشاراً وتفشياً للنظام الأمني بين أساتذة تلك المؤسسات ومعلماتها وما رافق ذلك من التخلي الفردي والجماعي عن الأدوار التعليمية بغية تغيير وتطوير المجتمع إلى أدوار مستهلكة تركن لسلطة الديكتاتور وتعزز حالة الولاء العام له عن طريق اختراق عقول الأجيال وتسميمها وخلط مفاهيمها الوطنية والسياسية.
المؤسسات التعليمية السورية ساهمت في تعميق حالة النزاع الطائفي وأعادت إنتاج حالة التقسيم المناطقي حيث إنها لم تتبن خطاً واحداً عاماً يساهم في بناء مواطن سوري بعيداً عن تلك التقسيمات والتناقضات، لكنها ساهمت في تعميق الشرخ الطائفي والحرص على الاصطفاف الأعمى في صف النظام القائم الذي روجته المناهج التعليمية على أنه منزه عن الأخطاء وأن ديكتاتوره هو المعلم الأول والمفكر الحصري والمطلق.
الجهة الثالثة: العائلة والعشيرة
كان منشأ الخوف الأول للفرد السوري ينطلق من حاضنته العائلية والعشائرية، حيث حكم الخوف الآباء والأمهات فنقلوه للأبناء ضمن الحياة اليومية فتجارب الاعتقال كانت ماثلة أمام الأهل مما جعلهم ينشرون مخاوفهم ورعبهم من النظام القائم بين الأبناء بالتشديد على عدم مخالفة النظام القمعي وعدم محاولة إزعاجه أو زعزعة أركانه، كذلك الأمر بالنسبة للعشائر التي عمقت حالة التبعية للنظام القمعي القائم بناءً على حالة من الولاء الأعمى للديكتاتور والذي يحكمه علاقات التسلط والقوة بشكلها البدائي والذي هو أقرب لفهم المجتمعات البدائية الصغيرة المغلقة، فالتقطت بذلك العشائر والتجمعات العائلية رسالة الديكتاتور الذي لم يتورع عن الاعتقال أو الإخفاء القسري لأبناء تلك العائلات والعشائر في حال خرجت عن طاعته المطلقة.
الجهة الرابعة: المؤسسات الدينية والتشريعية
خاطب حافظ الأسد الشعب السوري عام 1973 بهذه الكلمات “يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. إن ضمير أمتنا ينادينا”، نظام الأسد الأب منذ تسلّمه للسلطة في سوريا بعد انقلاب 1970 قام بإحكام سيطرته على المؤسسة الدينية بعدة طرق وأساليب، قوامها تعيين الأشد ولاءً للنظام السوري مفتياً للجمهورية أو خطباء مساجد، هذه الشخصيات الدينية التي اعتمد في تعيينها على كونها الأضعف خلقاً والأكثر انصياعاً للنظام، ساهمت في جعل التنشئة الدينية عبر المؤسسات الدينية شبيهة بالتنشئة السياسية عبر مادة القومية التي اعتمدها النظام في مؤسساته التعليمية، فأحكم قبضته على السنة في المقابل أطلق يد إيران في المؤسسة الدينية من أجل تشييعها.
بناءً على ذلك انقسم الشباب السوريون إلى قسمين قسم تلقى تعليمه الديني من المؤسسات الدينية الأسدية التي ساهمت في تدجين العقل الديني لديهم بترويج التفسيرات الأسدية لنصوص القرآن الكريم في المؤسسات الدينية حتى وصل الأمر بمشايخ النظام السوري ومفتيه لترديد عبارات من قبيل تلك التي رددها مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون “أقسم بالله إن الذي وضع بشار الأسد وحافظ الأسد وشكري القوتلي وجمال عبد الناصر، لست أنا أو أنت، بل هو الله”.
وقسم آخر من الشباب السوري الغير متدين الذي لم تقصر أجهزة الدولة في إشباعه بعقيدة الولاء للقائد الخالد، بهذا تكون المؤسسة الدينية قد أكملت دورها الذي هو جزء من الأدوار التي وزعتها المؤسسة الأمنية على كافة مرافق ومؤسسات الدولة السورية، خاصة أن الشعب السوري كان قد أصابه حالة من الخوف بسبب المجازر التي اقترفها النظام السوري مثل مذبحة حماة، ومذبحة تدمر، ومذبحة جسر الشغور التي كان من محركاتها الأساسية خفر الدولة الأمنية العلمانية المفرطة تجاه حركة الإخوان المسلمين الناشئة.
عبر الخطب والإشراف المباشر للأجهزة الأمنية على خطباء المساجد والدروس الدينية وفرض الشخصيات الدينية المتماهية مع النظام الديكتاتوري القمعي في فتواها وتأصيلها الديني لمكانة الديكتاتور الفرد في المجتمع طال الخوف العقل الفكري الديني الذي تم إشباعه بتنشئة دينية تسند أدوار الديكتاتور وتصفه بالعصمة المطلقة، كذلك تطلق يده في كافة مرافق الحياة.
الجهة الخامسة: المؤسسة العسكرية
كباقي مؤسسات الدولة عمد النظام السوري منذ بداياته لتعيين الشخصيات الأكثر ولاءً سياسياً وطائفياً له في المراكز القيادية العسكرية، وتكفل النظام السوري عبر جهازه الأمني بمنع أي اختراق فكري في صفوف المؤسسة العسكرية، بذلك كان يعيد إنتاج وضخ نفس المكونات البشرية من قيادات وعساكر في صفوفها، ضمن الخدمة العسكرية الإلزامية التي يفرضها النظام على شباب الجمهورية السورية.
شكلت المؤسسة العسكرية السورية الذراع الصلبة التي وظفها النظام لقمع الجماهير، وأخرجها عن أدوارها في حماية السيادة الوطنية للدولة السورية وحفظ أمن مواطنيها إلى أدوار الخفر والحماية لاستمرارية النظام السوري ولو كلف الأمر ترويع المواطنين واستباحة السيادة الوطنية.
عبر تلك المؤسسات والجهات وعبر كافة مرافق الدولة نجح النظام الأمني السوري منذ تولي حافظ الأسد للرئاسة في إرساء بنية عميقة للخوف في الصفوف السورية، وطبيعة تشابك تلك المؤسسات واقترانها كدرع حام لاستمرار وإعادة إنتاج العقل العلمي والديني والعسكري والوطني الذي يذود عن نظام الديكتاتور عبر عملية تنشئة قوامها قلب المفاهيم وتعميق التسلط المؤسساتي الأمني على كافة زوايا حياة المواطنين السوريين حتى أصبح المواطن السوري يشعر بالرقيب الأمني في داخله يمنعه عن التفكير خارج الصناديق التي فرضها النظام السوري في كافة نواحي الحياة.
ما يُحسب للثورة السورية ورغم الخسائر الباهظة في صفوفها ورغم محاولات اقتلاعها منذ البدايات أنها أتت بعد عقود من تعميق بنية الخوف لدى السوريين، فكانت تحمل طابع المفاجأة لأجهزة الدولة الأمنية العميقة التي حسبت أنها تحسن قبضتها على أنفاس الناس جميعاً، فساهمت الاحتجاجات الغاضبة منذ بداياتها الأولى في زعزعة منظومة الخوف العام التي سيطرت على مؤسسات الدولة والحياة العامة.
خرج الناس يهتفون ويطالبون بالتحرر من قبضة ذلك النظام الذي امتهن كرامات الناس وساهم في تقسيمهم طائفياً وتصنيفهم دينياً واجتماعياً وسياسياً حتى ألغاهم بالكامل أمام سطوة الديكتاتور على كافة موارد الحياة.
لم يكن من السهل على الثوار السوريين قلب موازيين القوى لصالحهم بانقلاب سلس على النظام الحاكم وذلك مرده لأسباب عمق النظام الأمني واختراقه لكافة الجهات والمؤسسات، فكانت الثورة السورية الأكثر عرضة لتشتت مجهوداتها وتعرضها للانتكاسات الداخلية وارتفاع عدد موتاها وأسراها ولاجئيها ونازحيها على امتداد العالم، فالنظام السوري العميق أمنياً كان مسنوداً من قبل دول عظمى وقوى خارجية حتى ممن وصفوا أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري.
لا يمكن الاستهانة بما قامت بهِ الحشود الثورية من محاولات مستمرة لتفتيت بنية الخوف التي سيطرت على حياة السوري وأرهقته وكانت تحول بينه وبين حصوله على كرامته الإنسانية، فعبر الثورات العالمية تمت مواجهة بنية الخوف ومحاولة تفكيكها حسب خصوصية كل مجتمع من المجتمعات، فكانت هنالك مجتمعات ودول من السهل نسبياً اختراق بنية الخوف فيها مما جعلها تحصل على نتائج أسرع مما جنته الثورة السورية، وإن كان هنالك من إنجاز يمكن البناء عليه لدى الثوار السوريين فهو محاولاتهم المستميتة في ضرب بنية الخوف والتسبب بعكس الحالة فالشعب السوري الذي ثار على الظلم بكافة الطرق ورفع صوته عالياً نقل حالة الخوف من صفوف الثوار إلى القصر الجمهوري.
حالة الخوف التي يعيشها الديكتاتور السوري وحاشيته والتي تعد أضعاف ما عاشه الشارع السوري خلقت حالة من الانحناء الكامل للاحتلالات الخارجية والقوى الخارجية التي استعان بها النظام السوري للقضاء على ثورة الشعب، فبذلك أقدم النظام الدموي الخائف على الاستعانة بتلك القوى التي تسنده عسكرياً وتحميه من نفاذ القوانين الدولية التي تسري على مجرمي الحرب من أمثال الديكتاتور السوري الدموي وقياداته العسكرية التي ساهمت في قمع الثورة السورية وشردت ملايين السوريين وقتلت الآلاف منهم كي تحمي الديكتاتور وإقامته الدائمة في القصر الجمهوري.
إن الشعب السوري الذي ضرب بنية الخوف العميقة في الدولة السورية فقوبل عالمياً باصطفاف قوى عالمية إلى جانب الديكتاتور، لا يمكن أن يقف عند تلك الحدود هذا لأن مجهوداته الثورية الملهمة لأحرار وثوار العالم ترسي وتخلق حالة من التململ العالمي والتحركات لضبط إسناد الديكتاتور من قوى عالمية خارجة عن القانون الدولي، فالثورة السورية على الديكتاتور وما تكبدته تساهم في رسم خريطة ثورية عالمية من قبل التجمعات العالمية التي صقلت مطالبها من الدول الكبرى بالكف عن دعم الديكتاتور وإحالته هو ومجرمي الحرب للمحاكمة الدولية ومحاكمة داخلية في المحاكم السورية.
لقد فضحت الثورة السورية بنية الخوف الداخلية كذلك فضحت بذات الوقت بنية الخوف العالمية التي يعيشها المواطن العالمي تحت سطوة النظام العالمي الذي يرجح كفة الأقوى فيه ويصبح الأكثر قدرة على التنصل عن مسؤولياته القانونية والجنائية تجاه شعب أو عرق معين، وهنا اقتضى القول إن تفتيت بنية الخوف في الدولة السورية العميقة ملهمة لتفتيت بنية الخوف العالمي الذي تشيعه منظمات تحابي الدول القوية في قوانينها وتشريعاتها، فتفتيت بنى الخوف المحلية لا يمكن أن يكتمل ويفضي لحالة من إعادة البناء الكامل على أساس القانون وحفظ الحقوق طالما لم ترافقه ثورة قانونية عالمية من أجل تفتيت بنى الخوف العالمي الذي أرسته النظم والدول الكبرى والقائم على حماية الدول المعتدية بحق النقض.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا