دائماً في كثير من الكتابات السياسية والإطلالات الإعلامية، ما يتمُ ربطُ التشيعِ بدولة ما، وتحديداً الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهي عملية إلحاقٍ تتصفُ بالتعميم، وتفتقدُ الأساس العلمي والتاريخي، كما أنها في حقيقتها موقف ذو طابع سياسي، سواء من أنصار طهران أو خصومها.
الثورة الإسلامية التي أعطت السلطة لعلماء الدين في إيران، وأزاحت الشاه محمد رضا بهلوي من سدة عرشه، عام 1979، اتخذت من “التشيّع” مذهباً رسمياً للجمهورية الفتية، ودوّنت ذلك في دستورها، برغم أنها دولة متعددة المذاهب والأديان والأعراق. وتحديد دين الدولة أو مذهبها، لم تنفرد به إيران وحدها، بل كثير من الدول العربية والإسلامية تجعل من الإسلام أو “التسنن” مرجعية دينية للأحكام والفُتيا وشرعةِ الحكم. وهو أمرٌ يتعارضُ مع النظرة الحديثة للدولة المدنية، التي تعتبر الدين شأناً خاصاً له احترامه، وللمؤمنين به حق إشهاره وممارسة شعائرهم في المجالِ العام دون إكراهات، إلا أن هذه الأنظمة تفصل بين الدولة والدين، كون الدولة تدبيراً مدنياً، وبالتالي كياناً لا دين له، وإلا انحازت لجماعة من المواطنين وفضلتهم تلقائياً على الآخرين، حتى ولو لم تُرد ذلك!
وجود آيات الله بزيّهم الديني على رأس السلطة في إيران، وحكمهم باسم “ولاية الفقيه”، أي النيابة عن الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن، المهدي المنتظر، جعل هنالك نوعاً من التلازم بين “التشيع” والنظام الإيراني. وهو ارتباطٌ تعززت صورته ذهنياً وإعلامياً على مدى سنوات، لأسباب عدة، ربما أهمها:
- رغبة إيرانية في جعل النظام نموذجاً يُحتذى من شيعة العالم، وبالتالي تحويله إلى قبلة سياسية، ومنارة فكرية وعقدية، ما يمنح طهران تأثيراً واسعاً على الشيعة في بقاعِ مختلفة، ويجعل لها تأثيراً خارجياً، يحقق رغبتها في التوسع خارج أطرها الجغرافية.
- وجود الحوزة العلمية في مدينة “قم” الإيرانية، والتي ضمت العديد من آيات الله، الذين كانوا وما زالوا مراجع تقليد يأخذ منهم ملايين المؤمنين أحكامهم الشرعية حول العالم. بعضهم له نهج ثوري، كالسيد روح الله الخميني، والشيخ ناصر مكارم شيرازي. وآخرون لا يتدخلون في السياسة، أمثال الشيخ ميرزا جواد التبريزي، والشيخ الوحيد الخراساني. فيما هنالك بعض الفقهاء من له مواقف علنية معارضة لنظام “ولاية الفقيه”، أمثال، السيد محمد كاظم شريعتمداري، والسيد محمد صادق الروحاني.
- وجود عدد من المقامات الدينية والمزارات، التي تحظى باحترام لدى المسلمين الشيعة، مثل مرقد الإمام علي الرضا في مدينة “مشهد”، ومرقد أختهِ السيدة فاطمة المعصومة في مدينة “قم”. حيث يزورها ملايين الشيعة سنوياً من داخل إيران وخارجها.
وهذه المزارات لها سطوتها المعرفية والروحية التي تجعلها مناطق جذب، وتحظى الدول التي تحتضنها بنوع من القوة “الروحية”. علماً أن المقامات الدينية “المقدسة” لدى الشيعة توجدُ أيضاً في السعودية والعراق، بشكلٍ يفوق بأضعاف وجودها في إيران.
- إيمان النظام في إيران بمبدأ “تصدير الثورة”، وهو ما جعله يعمل على الترويج لأفكاره، سواء عبر الإعلام أو حتى دعم وتأسيس الخلايا والأحزاب السياسية والعسكرية التابعة له في أكثر من دولة. وهذه السياسة العابرة للحدود، وجدت لها معارضة شديدة ومحقة، خصوصاً من دول الجوار في الخليج العربي، سواء الحكومات، أو حتى نخب سياسية ومثقفة وعلماء دين من شيعة الخليج، الذين اعتبروا ذلك تدخلاً مضراً ينبغي على إيران الكف عنه، لأنهم مواطنون أصليون في هذه الدول، يدينون بالولاء لها، ويرفضون أن ينظر لهم بوصفهم ملحقاً بأي كيانٍ خارجي.
فكرة “تصدير الثورة” جعلت خصوم طهران، وتحديداً المتمذهبين منهم يصفونها بـ”الثورة الشيعية”، ما صيّر “التشيّع” كمذهب، أو الشيعة كأفراد، حتى لو كانوا غير إيرانيين، هدفاً رخواً، وجعلهم ذلك دون وجهِ حقٍ يُحَمّلونَ وِزرَ سياسات طهران، برغم أنهم ليسوا جزءاً منها. وهو تحميلٌ قادَ نحو أمرٍ أكثر خطورة، أي اتهام الشيعة في العالم العربي بأنهم “طابور خامس” ومجرد “عملاء إيرانيين”، وهي الفريةُ الكبرى، سياسيةُ الطابع، طائفيةُ المغزى والأسس، والتي يريد أصحابها أن يحققوا مكاسب مذهبيةٍ وحزبية، عبر ترويج دعاية سوداء، تخلق فتنة بين المواطنين في الدول العربية عامة، والخليج خاصة. فالمواطنون “الشيعة” الذين تعاملوا مع إيران عسكرياً وسياسياً هم أقليةٌ معزولة، لا يصحُ تصويرهم كممثلين لطائفة بأكملها. وإلا لوجب – وفق هذا المنطق المعوج – تحميل المسلمين “السنّة” جريرة عمليات “القاعدة” و”داعش”، وهو أمرٌ لا يُقرهُ عاقلٌ ومنصِف. ولذا، فالترويج السياسي المذهبي، هو دعاية غوغائية تعمل على إشعال الصراعات داخل دول الخليج، ينبغي الحذر منها، ومحاسبة من يخالف القانون، ويتخابر مع دولة أجنبية أو منظمة إرهابية، أو يروّج للكراهية والطائفية، بغضّ النظر عن مذهبه أو دينه. لأن الأساس أن فعله “جرمٌ سياسي وأمني”، وليس دينياً!
- يضاف لما سبق، هنالك تيارات سلفية تقليدية، لها موقف عدائي وتكفيري من المسلمين الشيعة، وهي تنظر إليهم بوصفهم كتلة واحدة صماء، ولذا، وبهدف ترويج فكرتها، تصف “التشيع” بأنه مذهب “إيراني”، لكي تعزل “التشيّع” وتحاصره، ظناً منها أنها تتقرب إلى الله بذلك!
- السلفية التقليدية التي تمت الإشارة لها أعلاه، منطلقاتها عقيدة في مواقفها، إلا أن الأكثر خطورةً منها، هي تشكيلات “الإسلام الحركي”: السلفية الجهادية، السرورية، الإخوان المسلمون، كونهم يمتلكون برنامجاً سياسياً وعسكرياً خاصاً بهم.
وبالتالي فإن ربطهم بين إيران و”التشيّع” هو ربطٌ عن سابقِ إصرارٍ ووعيٍ، لأنهم بذلك يحددون “العدو” ويصوّبون النار عليه علانية، لا لإيذائه وحده، بل أيضاً لضرب الاستقرار والسّلم الاجتماعي في دول الخليج والعراق ولبنان وسوريا واليمن، وخلق فتنٍ طائفية متنقلة، لأن هذه الحركات المتأسلمة لا تعيش إلا في البيئات المضطربة، فالفوضى هي مدخلهم لإضعاف أنظمة الحكم، وفرصتهم لكي يقدموا أنفسهم كبدائل تحمي “الإسلام”، وتعيدُ الأمور إلى نصابها.
هذه العوامل مجتمعة، تجعل من الأهمية بمكانٍ تحرير النظرة إلى التشيع من كونه ملحقاً بإيران، والتعامل معه بوصفه مذهباً إسلامياً مستقلاً، له ملايين المؤمنين به حول العالم، والذين هم مواطنون في دولهم، يلتزمون بالقانون المعمول به في كل دولة، ويشاركون في عملية التنمية والإصلاح والتغيير.
التشيع كمذهب إسلامي، أتباعه موجودون في جميع دول الخليج، وفي أذربيجان وتركيا والعراق ولبنان وسوريا واليمن وباكستان وأفغانستان والهند، والعديد من الدول العربية والإسلامية، فضلاً عن أوروبا وأميركا وأستراليا؛ وهؤلاء ينتمون لثقافات عدة، ولغات مختلفة، ومجتمعات متنوعة، ولديهم تجارب متباينة، وبينهم العلمانيون، والملحدون، وغير المتدينين، والمؤمنون الذين لديهم مواقف ناقدة لنظام إيران، والرافضون لحكم رجال الدين، من دون أن ننكر وجود جمهور مؤيد لسياسات النظام الإيراني، وهم في ذلك يتشابهون مع من يؤيد “الإخوان المسلمين” لدى المسلمين السنّة، فهل يعني ذلك أن جميع “أهل السنة والجماعة” هم من “الإخوان المسلمين” وتابعون لحكمِ المرشد؟!
لقد تحوّل الخطاب الديني المسيّس، سواء المناصر لطهران، أو المعادي لها، إلى خطابٍ حجاجي، انعزالي، شقاقي، أصولي المنشأ والغايات، يسعى للاستحواذ ونفي الآخر. وما لم يُحرر “التشيع” و”التسنّن” من ربقةِ السياسة والتبعية للأنظمة، ويكفّ رجال الدين عن ممارستهم السياسة بوصفهم “رجال الله” وظله على الأرض، ويمتنع السياسيون عن الاصطياد باسم “المقدس” والمنافحة عنهم، فإن المسلمين في أوطانهم، وشركائهم في الأرض والإنسانية، سيعانون الكثير من الكراهية والنزاعات والحروب؛ ولذا فإن تحرير المذاهب والأديان من السياسات، هو تحرير للإنسان وصون لكرامته، وأيضاً حماية للدولة وكيانها، وحفظٌ للسلم الأهلي في المجتمعات المتعددة، ومدخلٌ رئيس لكي يتم الاشتغال ببناء الحضارة والمستقبل، والعمل على التنمية المستدامة والحكم المدني الرشيد.
المصدر: النهار العربي