(منشأ الأزمة الحالية في لبنان فقدان هذا البلد المميز بخصائصه الدور الوظيفي الذي أنيط بنشوئه واقترن وجوده به، وكان بمثابة شرط وجود وشرط بقاء، من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية اضمحلال الاهتمام الدولي به نتيجة انتهاء دوره الوظيفي، مثله مثل دول عديدة في المنطقة اعتمدت على الاقتصاد الريعي حقبة طويلة، ولم تعد قادرة على الاعتماد على نفسها وقواها الداخلية في الاستمرار، ولا بد من (مرابع) يتولى ضبط استقرارها وتدبير أمورها على الصعيد الاقليمي – الدولي).
هكذا لخص محدثنا مقاربته لأوضاع المنطقة، وخاصة سورية ولبنان، محاولا بموضوعية حادة تحديد الخيارات المتاحة للقوى الوطنية المعنية ببلادها، لوقف الانزلاقات المتدحرجة بسرعة نحو كوارث أسوأ مما نراه الآن.
محدثنا باحث مرموق على المستويين العربي والدولي، يتعامل مع أزمات وملفات الاقليم، بمنهجية الطبيب الذي يعالج المرضى والمصابين مركزا على تشخيص اصابتهم، وتحديد العلاج المناسب، دون أن يتوقف عن هوياتهم وخلفياتهم.
أهم ما يميز محدثنا عن بقية الأكاديميين، علاقاته المباشرة وقنوات اتصاله المفتوحة مع صناع القرار الكبار في دول كبرى واقليمية عديدة، من باريس وواشنطن الى وموسكو وطهران، فضلا عن دمشق وعواصم الخليج.
ورأى أن التغطية الدولية لدخول القوات السورية لبنان 1976، كشفت حاجة كل الأطراف الدولية والاقليمية للدور السوري في لبنان، لضبط الجماعات المتصارعة فيه وعلى أرضه. وكان هناك توجه لإطالة أمده، طالما عجز اللبنانيون عن وقف صراعاتهم البينية، وفشلوا في خلق عصبية وطنية تصهر انقساماتهم الطائفية. ولقد تعزز هذا الاتجاه عندما جدد الأميركيون التغطية الدولية للوجود العسكري والسياسي السوري عام 1990 . وكان حافظ الأسد قادرا على إدارة شؤون البلد ، بطريقة تلبي مصالحه ومصالح الأطراف الخارجية ، بينما فشل فيه وريثه بشار بعد عام 2000 ، وكسر التوازن بموافقته على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، ما دفع الدولتين الراعيتين (فرنسا وأميركا) في لحظة غضب دولي عارم على اتخاذ قرار إخراج القوات السورية فورا من لبنان . إلا أنه لم يمر وقت طويل حتى شعرت الدولتان بأن إخراج السوريين لم يحل المشكلة اللبنانية ، بل ربما عقّدها ، وفتح البلد لنفوذ لاعب اقليمي جديد لا سيطرة عليه ، وغير مرضي عن سلوكه دائما . ولعل من اتخذ قرار اغتيال الرئيس الحريري كان يريد دفع التطورات في هذا الاتجاه .
المهم أن إخراج السوريين افضى عمليا الى تسليم البلد للإيرانيين ووكلائهم. وهو تطور لا يفيد لبنان ولا يخدم بقية الأطراف، وعلى الأخص أنه ضرب علاقات لبنان الاقتصادية مع الدول العربية والغربية، فبدأ الانهيار الاقتصادي وفقدان الخصائص الثقافية، وعزلة البلد عن محيطه.
الغرب نادم على اخراج الأسد من لبنان !
وكشف لنا محدثنا الخبير بالعلاقات الدولية: لقد اطلعت خلال الخمسة عشر عاما السابقة على ثلاثة محاضر رسمية لاجتماعات مختلفة بين مسؤولين أوروبيين وأميركيين تتضمن كلاما واضحا عن (خطأ) إخراج السوريين من لبنان، وخطأ التقديرات الاستراتيجية لنتائج هذا القرار المتسرع.
وأضاف إنه تلقى اتصالات عديدة من مسؤولين وديبلوماسيين غربيين للاستفسار منه عن بعض المسائل المتعلقة بتطورات الساحة اللبنانية، وتقديراته لكيفية وقف استباحة لبنان، وانهياره وفلتان الأمن فيه. وقال إنه كان ينقل بعض المعلومات الى صديقه وليد المعلم.
ورأى الباحث أن أحد أهم عوامل انهيار لبنان في العقد الأخير هو عجز ايران ووكلائها عن تقديم نموذج اقتصادي وتنموي وثقافي للبنانيين، إن ايران استطاعت وتستطيع اشعال الحروب والقتال ، ولكنها لا تسطيع تقديم نموذج للبناء والسلام والاستقرار فيه ، ولا تملك القدرة على تعويض اللبنانيين عن خسائرهم الاقتصادية في تخريب علاقات لبنان مع العرب ، ودفعهم للانسحاب منه .
أما سورية فرغم كل سلوكها المشين كانت قادرة أن تقوم بدور مقبول من كل الدول المعنية بلبنان.
ومع الوقت بدأنا نشهد حاليا تلاشي زخم المشروع الايراني في المنطقة تدريجيا وافلاسه اقتصاديا ، حتى في أوساط حاضنته الدينية ، وهو الآن مهدد بخسارة كل شيء . لذلك من الطبيعي أن نشهد تفاقم الأزمات وانهيار الاقتصاد والأمن والوفاق الوطني والسلم الأهلي ، والاستقرار السياسي والاجتماعي .
إن حزب الله الآن في أزمة عميقة ، يصعب الخروج منها ، وعاجز عن تقديم بديل مقنع لحاضنته ، ولبقية الشعب اللبناني . كما إن سورية في أزمة وجودية ومصيرية، ولم تعد قادرة على تأدية أي دور في لبنان أو غيره . ولذلك فلا وجود لمن يؤدي وظيفة أو دور (المرابع) الذي يضبط الساحة اللبنانية. إن سورية منهارة وممزقة اجتماعيا وطائفيا وسياسيا ، وأصبحت رهينة في أيدي دول عديدة تتحكم بأرضها وثرواتها وقرارها السيادي ، خصوصا أن نظام الأسد غير مستعد ولا قادر على طرح حل سياسي جاد ، وناجع لإنقاذ بلاده أو غيرها ، وسلم كل أوراقه لإيران ، ولو تخلت عنه ايران ، أو أخرجت ايران من سورية ، فلن يستطيع البقاء في السلطة يوما واحدا ، وسيصل الثوار الى قلب دمشق .
ويضيف محدثنا: من المنظور الاستراتيجي حتى روسيا ثبت فشلها وعجزها أن تلعب دور (المرابع) أو حتى دور (البلطجي) القادر على ضبط البلطجية والزعران والأوباش الذين يتكاثرون ويعتاشون على الفساد والخراب وغياب الدولة في البلدين سورية ولبنان ، وصار وجودها في سورية رهينة بأيدي الايرانيين ، لا العكس . لقد سمح الغرب للروس بدخول سورية لتكون “البلطجي” القادر على ضبط عصابات البلطجية في سورية ، وفرض حل سياسي ما ، لكنها فشلت ، وقد تتعرض لعقوبات غربية بسبب هذا العجز تحديدا .
وعندما سألنا محدثنا عن رؤيته للحل في سورية ولبنان ، أجاب إن الازمة في لبنان لا قعر لها ، وقد تتفاقم أكثر ، ولا حل في البلدين سوى أن تظهر نخبة وطنية واعية وجريئة تبلور وتطرح مشروعا للانقاذ ، لا يعتمد على الخارج ، بل يراهن على استنفار العصبية الوطنية وإحيائها ، لجمع المكونات والطوائف المنقسمة والمتحاربة عليها . وإعادة الهيبة لمفهوم العيش المشترك، واستعادة القانون والدولة والقضاء والمحاسبة والنزاهة ومكافحة الفساد بشكل جدي وصارم. بدون ذلك فالبلدان الشقيقان ذاهبان.. الى انهيار كامل، وقد يكون القادم أسوأ مما نراه اليوم، لأن العالم لم يعد مكترثا ومهتما كثيرا بهما، حتى سايكس بيكو القرن العشرين انتهت، وقد تظهر سايكس بيكو جديدة للقرن الحالي تعتمد على الانقسامات الواقعية الموجودة على الأرض.