في سلسلته الشهيرة /مدن الملح/ وفي الجزء الثالث منها “تقاسيم الليل والنهار” يبحر الأديب والروائي الراحل والكبير عبد الرحمن منيف في بحر صحراوي لا قرار له، وفي أتون ربع خال من الرمال المتحركة، التي وطئتها أرجل إنسان ومن ثم حيوان، أو لعله قبل ذلك.. نروح مع الأديب منيف في رحلة ليست كرحلاته الأخرى لكنها بالضرورة غير قادرة على مغادرة نسق الاندراج امتلاكاً في تلك المدن من الملح التي بناها البدو في صحراء شبه قاحلة، هو بالنتيجة ممن يعرف كيف يبحر، كما يعرف كيف يلامس إسقاطاً عصرياً على واقع الأمة في أيامها الآنية، بل والقادمة إن أمكن… في ” تقاسيم الليل والنهار” حالة من الإمساك المقتدر بتلابيب الواقع المعايش دون النظر إلى مآلاته وإنتاجاته.. يدخل الكاتب عبر روايته هذه في تلافيف تَشكل الدول والممالك في صحراء العرب عبر عصورها الحديثة، مسلطاً الضوء على كيفية التشكل وماهيته واللحظة الزمنية تلك، التي ما برحت ترخي حملها على آننا الذي نعيش رغماً عنا جميعاً. وهو عندما يتحدث عن كون “الصمت سلاح الأقوياء أكثر مما هو سلاح الضعفاء أو الجبناء ” .. إنما يحاكي إرادات الشعوب العربية الصامتة والمقهورة والتي ترفض كل شيء بصمتها المطبق الآيل لأن يكون حالة مستمرة.
في”موران”و “العوالي” نموذجان متكاملان للمدن العربية المنفلتة من عقالها، المندرجة في سياق البيع والشراء وسيادة العقل التجاري النفعي الذي ينفي الآخر ويلاقح الثقافات في نفس الوقت
وعندما ينظر في وجوه البدو والعرب فإنها ” نظرات ليس هدفها الرؤية، وإنما تقشير الشخص المقابل، وتمزيق أي رداء يرتديه، وبهدف أن تمنعه كلية من أية امكانية للكذب.”..
تدخلات” هاملتون” كثيراً ما يرى فيها شكلاً من أشكال الاستعمار والهيمنة، لكنه في لحظات أخرى يرى فيها بحثاً عن الحرية، وعن النفط والذهب في نفس الطريق.. وهو يرى أن “الشرق ليس مكاناً جغرافياً فقط أو مجرد ديانات وطقوس وبخور، إنه كتلة من العناصر مزجت بطريقة فذة وربما تدخلت، أو غلبت، فيها الصدفة، لكي يكون عصياً على الفهم الأول أو السهل ” وهو دائماً وعلى طول المدى يتذكر أن الواقع داخلياً وخارجياً صعب للغاية، لأنه حسب قول المتنبي:
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل
حيث يحاور شخوص الرواية في ذلك ليعتبرها البعض تفاؤلاً مغايراً للواقع، لأنه كما يقول بطل الرواية ” فماذا لو قلت له أن الروم في الظهر نفسه.”
لعله إسقاط واقعي آني يسبق زمانه ويقرأ فيه (عبد الرحمن منيف) الواقع والمستقبل كما لو أنه يعيش معنا – رحمه الله.. فحق كلام عمة “هاملتون” التي تقول: ” يجب أن تذهب عميقاً في مجتمع معين، لمعرفته واكتشافه ويجب أن يقترب الإنسان من هذا المجتمع بروح من التعاطف والرغبة لكي يصل إلى حقيقته.”
عموماً فإن هذه الرواية من الأهمية بمكان بحيث يدرك قارؤها أنه يقرأ الآن والمستقبل بما امتلك الكاتب لأدواته في نسجها وحبكها وسردها وبما حملته من فكر تاريخي لا يمتلكه الكثير ممن يكتبون الرواية الأدبية في عصرنا الحالي.. فكانت “تقاسيم الليل والنهار” في عز النهار، وفي اندماج الليل بالنهار، وفي وضوح الشمس وما وراء الشمس الساطعة لا محالة.