امتحنت الثورة السورية منذ اندلاعها الحقل الثقافي السوري، بكل حمولاته وتياراته وتعبيراته ورموزه، وبما لا يقل عن اختبارها الشامل لكل البنية السياسية، وميراثها السلطوي المتجذر، وكما فرضت الثورة احتكاك أفكار النخبة بالشارع، بعد تنزيلها من أبراجها العالية، فتحت بدورها أفقاً جديداً، لاستعادة الحياة السياسية، في مجتمع غابت السياسة والمعرفة عنه لعقودٍ طويلة. في عصر الثورة الذي تزامن مع ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والإعلام الاجتماعي، بات الحديث عن الثورة الثقافية، انقلاباً شاملاً في الرؤية والخطاب والمفاهيم السائدة، عبر وسائل حداثية كاسرة لكل محاولات التضييق على الفكرة والمعلومة وحجب الصورة. ما أكد أن الثورة لا تُبقي شيئاً على حاله، ولا تقبل عودة عقارب الساعة إلى زمن اليقين الهش، وأن الخمول الثقافي في عهد الاستبداد الأسدي، لم يعد ممكناً أن يبقى بمنأى عن صفعات الروح السورية المشبوبة للعبور إلى فضاء الحرية.
منذ بداياتها اتضح أن فرز الثورة لمواقع المثقفين، مسألة يحتمها الموقف الأخلاقي من الثورة، أكثر من محددات الموقف العقلاني، ومرد ذلك إلى فرادة السلطة في وحشية قمعها وتنكيلها بالحراك الشعبي في تجلياته السلمية، وحجم التضليل والكذب الذي مورس من أجهزة السلطة لتشويه الحقيقة، وما كانت تحتمه يوميات الاعتقال والتعذيب والقتل، التي توغل النظام في اقترافها ضد من طالبوا بالحرية والكرامة، من مواقف وجدانية تأبى الصمت على أنين الضحايا وصرخات المظلومين. ما فرض لزوماً، أن يكون المثقف الحقيقي هو ” ذلك الشخص الذي يمثل صوت من لا صوت لهم، ويجسد قيمهم ويستمسك بها من دون مساومة أو تفريط” وهو نفس تعريف “إدوارد سعيد للمثقف” في كتابه الرصين ” المثقف والسلطة “وبهذا المعنى يتراكب الموقفين الفكري والأخلاقي، وتستوي علاقة المثقف بالثورة بناءً عليهما.
بوسعنا القول: إن عملية الفرز بين مواقف المثقفين السوريين، بدأت منذ الإرهاصات الأولى للحراك السلمي، لكن اشكال وتعبيرات التموضع والاصطفاف، اتضحت أكثر مع تبلور الانقسام الحاد بين جمهور الثورة وجمهور الموالاة والمساحات الرمادية بينهما. ما أدى بدوره إلى تبلور انقسام المثقفين إلى خياراتٍ ثلاث، ثم اتضح ان هناك خياراً رابعاً، كشفت عنه لاحقاً المسالك الوعرة التي انتصبت أمام الثورة:
الأول: المثقفون الذين التحقوا بالحراك الثوري ودعم مطالبه المشروعة، وانخرطوا بالموقف المجرد والسلوك الفردي في فعالياته العلنية والسرية (مظاهرات – اعتصامات – كلمات في تأبين الشهداء – عمليات إغاثة – توقيع بيانات، مثل بيان الحليب لأطفال درعا – الخ ..) الثاني: من لم يغادروا مساحة الصمت والتردد والحياد، مع عدة كلامية تنتمي إلى الستاتيكو القديم لمملكة الخوف والصمت، لتبرير الروح السلبية والانهزامية التي تهيمن عليهم. الثالث: من تبنوا رواية السلطة وروجوا لها منذ الأيام الأولى، وعملوا على تسويغ جرائمها ونشر أباطيلها عن المؤامرة الكونية والعصابات المسلحة والجماعات السلفية، الخ.…
كشفت تلك الخيارات الثلاث المعدن الحقيقي للمثقف، ووضعت الجميع أمام مفاجآت تسمُ طبيعة الثورة، التي كانت نفسها المفاجأة التاريخية الكبرى، والكشّاف النافذ إلى بنية طبقات وشرائح وفئات المجتمع السوري. في حين لم يخرج مثقفو السلطة من حظيرة الاستبداد التي تعيّشوا على موائدها، أكد مثقفو الثورة على المحك انتمائهم إلى شعبهم وعذاباته وتطلعاته المشروعة، ولأن المثقفين ينتمون إلى بيئات ومصالح وتكوينات مختلفة، لابد أن تتباين مواقفهم وخياراتهم، فكيف حيال واقعة كالثورة تفرض تغييراً جذرياً وشاملاً في حياة المجتمع، لا يمكن إحداثه دون تصدعات وانقسامات عميقة، في بلد هندسها الأسد الأب، وأورثها للإبن على قاعدة إما السلطة للأبد أو إحراق البلد. كان مفاجئاً -إلى حدٍ ما -سلوك من يمكن تصنيفهم في الخيار الرابع، وهم طائفة من المثقفين كانوا من دعاة الحرية والديمقراطية، ولطالما عانوا من قمع النظام وسجونه ومنافيه، ثم ارتدوا عن مواقفهم في زمن الثورة بحجة الخشية من البديل، وأصبحوا أكثر تمسكاً ببقاء النظام والدفاع عن وجوده، كحال أقرانهم المصريين، الذين أصبحوا جزءاً من بنية الاستبداد الجديدة إثر انقلاب 3 يوليو 2013. في العودة إلى تحليل سلوك هذه الطائفة، يحضرنا ما كتبه عنها مبكراً المفكر والفيلسوف الفرنسي جوليان باندا، والمعروف بآرائه الناقدة لتحولات المثقفين حيث يقول: (إن ما يُعيب مثقفي العصر الحاضر “وهنا يتحدث عن مثقفي القرن التاسع عشر” هو تنازلهم عن سلطتهم المعنوية والأدبية، في مقابل تنظيم المشاعر الجماعية الجارفة ” فكيف اليوم وهناك من تنازل عن تاريخه المنافح للظلم والاستبداد، قافزاً من مربع الثورة إلى مربع السلطة.
لا يمكن تفسير سلوك ومواقف أولئك المثقفين، بتلك النظرة التبسيطية عن خيانة المثقف لمبادئه قبل خيانته لحقوق الشعب، إنها تحثنا على دراسة دوافعها ونوازعها الحقيقة (الشخصانية والطائفية والمصلحية) كي نفهم قوة الفكرة الديمقراطية، ومدى أصالتها لدى الكثير من النخب المثقفة في واقعينا السوري والعربي.
في حقبة الثورة السورية ونظيراتها العربية، لم يعد دور المثقف الحقيقي هو طرح الأسئلة دون الخوض في الإجابة عنها، ما أعاد للأذهان ذاك الجدل النخبوي حول سوسيولوجيا الثقافة، وفحوى وظيفة المثقف في تغيير الواقع السياسي والاجتماعي، والدور التاريخي للمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه. عادت تلك السجالات في زمن الربيع العربي، وأمام معضلات الثورة السورية تركزت أسئلتها المُلحة، حول ممكنات انخراط المثقفين السوريين في المجال السياسي العام، في ظل ضعف أداء القوى السياسية، في تثمير تضحيات الثورة، وتعقيدات التدخل والتداخل الإقليمي والدولي في الحالة السورية، فضلاً عن انكشاف عجز المجتمع الدولي في القرن الواحد والعشرين، حيال الإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام وحلفائه بحق السوريين. جميعها عوامل فرضت ما هو أبعد من حصر وظيفة المثقف، في إعادة ترتيب وتركيب الثقافة العامة عبر عمليات النقد والاستقصاء والتفكيك، وما هو أكثر من بقاء المثقفين على مسافة نقدية من الثورة، إذ أن متطلبات الواقع هي من يحدد وظيفة المثقف، وجدلياً لا يمكن إحياء تلك الوظيفة دون ردم الهوة التي تفصل المثقف عن السياسة، وشرط ذلك يكمن في نقد وتفكيك فكرة عزوف المثقفين، عن الانتماء للأحزاب والمؤسسات السياسية، بحجة أنها المعادل للتحزب السياسي والايديولوجي، إذ أن الأخير ينطوي على انغلاق وجمود يعوّق من تحقيق أهداف الثورة، بينما الوظيفة النقدية للمثقف، تقوم على المساهمة في دمقرطة العمل الحزبي والسياسي من داخله، ورفض احتكار السياسة من نخبة تريد تهميش دور المثقف، و في أحسن الأحوال إحلال السرديات الثقافية محل علاقات الواقع.
إن الانتكاسات والتحديات التي تواجه الثورة، في ضوء كثافة البرامج الخارجية المعادية لها، جميعها أسباب تتضاعف من مسؤولية المثقفين في ردم الهوة التي تفصلهم عن محيطهم، وعن مجالات التأثير في مجتمعهم. لقد لاحت الفرصة التاريخية لتحرير طبقة المثقفين من النوسان الإيديولوجي، الذي طبع تجاربهم قبل مرحلة الثورات، والانتقال إلى مربع الانخراط الفاعل في مجالات الشأن العام، كي يستعيدوا أدوراهم في إنتاج المعرفة الحقّة، كمهمة تنويرية وحضارية، لشعب هو أحوج ما يكون اليها، في معاركه المفتوحة ضد الاستبداد والطغيان والتطرف والهيمنة الخارجية.
المصدر: سورية الأمل