يبدأ جميعنا حديثه بالتأكيد على قناعته بالمشروع الوطني، وليس من النادر أن يضيف كلمة (الجامع) للتأكيد على رسوخ قناعته بهذا المشروع، لكن بعد قليل من النقاش نكتشف أن المشروع الوطني يكاد يكون مفصلًا على مقاس المتحدِّث، على مقاس وعيه ومدركاته وخبراته وقناعاته ومصالحه، وربما ارتباطاته، أو على مقاس أيديولوجيته أو دينه أو إثنيته أو جماعته القومية.
هذا له أحد احتمالين، الأول هو أن المتحدث غير صادق سلفًا في حديثه أو فيما يُعلن، والثاني هو غياب بديهيات المشروع الوطني عن تفكيره، ما يعني أن المشكلة تطال أصلًا طريقة أو منهجية التفكير في المشروع الوطني أصلًا. أنا أميل دومًا إلى الاحتمال الثاني؛ لأن الاحتمال الأول تصعب معرفته من جهة، ومن غير اللائق نزع صفة الصدقية عن الآخرين من جهة أخرى.
كيف نفكِّر في المشروع الوطني؟ أعتقد أن هناك مجموعة من البديهيات والأساسيات التي تشكل قاعدة ضرورية عندما نريد التفكير في المشروع الوطني وتوصيفه ووضع ملامحه، أو عند الذهاب في طريق بناء هذا المشروع سياسيًا وتنظيميًا، ويمكننا بواسطتها وضع الحدّ على الادعاءات الكثيرة بامتلاك مشروع وطني سوري، تلك التي تختلف عن بعضها بعضًا إلى درجة التناقض أو العداوة أحيانًا.
في سياق التفكير في المشروع الوطني، ثمة أهمية لإدراك علاقة الجزء بالكل أو علاقة الخاص بالعام؛ لا بدّ من بناء علاقة سوية بين الحدّين، علاقة لا تذهب في اتجاه محاولة إضفاء الخاص طابعه وخصائصه على العام، كما لا تذهب في اتجاه محو العام للخاص أو نفي وجوده أو حريته. علاقة عقلانية يأخذ فيها كلٌ من العام والخاص حقه ودوره، فلا يمكن النظر إلى سورية واختزالها بعين أحد “أجزائها” أيًا يكن حجم هذا “الجزء”، كما لا يمكن النظر إلى سورية من دون أحد “أجزائها” أيًا يكن حجمه، كل الأجزاء متساوية في القيمة والاعتبار والحقوق والدور.
يُبنى المشروع الوطني على الحدّ الأدنى المشترك بين المواطنين، وهو ما ينبغي تثبيته في الدستور الوطني الذي يمثِّل، بطريقة أو أخرى، إرادات المواطنين كافة؛ فإغراق أي دستور بالحديث عن خصوصيات “أجزاء” معينة في المجتمع كافٍ لتفجيره، وليجعل منه شيئًا آخر لا علاقة له بالدستور. من جانب آخر، لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح أو يكون معبِّرًا حقًا عن اسمه، من خلال هيمنة أي أغلبية، دينية أو إثنية، كما لا ينجح المشروع الوطني بإعطاء ميزات خاصة لأحد “أجزاء” المجتمع.
الصيغة التفاوضية أو التسووية هي الصيغة الأفضل لإدارة الاختلافات والتنوع، وهي الصيغة التي تعني ألّا أحد يستطيع الحصول على كل ما يرغب ويشتهي أو يفرض ما يعتقد أنه صحيح على الجميع، وتعني في المآل تقدير كل “جزء” من “أجزاء” المجتمع، إن صحَّ التعبير، لهواجس وآمال الآخر، في لحظة سياسية ضاغطة على الجميع، وفي بلد لم يختبر بعد فكرة الوطنية/العمومية والمواطنة.
هناك من يفصِّلون المشروع الوطني ليتناسب مع موازين القوى الداخلية الحالية أو بالتوافق مع سياسات الدول الداعمة لهذا “الجزء” أو ذاك من المجتمع؛ في الحقيقة، إن المشروع الوطني الذي يُبنى على قاعدة ميزان القوى المؤقت غير قابل للصمود، ويمكن أن ينهار عندما تتبدّل موازين القوى، خصوصًا عندما يستند المشروع إلى القوة المسلحة أو إلى العلاقة بقوة إقليمية أو دولية ما. أما موازين القوى التي تستند إلى الموروث؛ الكثرة العددية لأتباع دين أو مذهب معين، أو التفوق العددي لأبناء إثنية أو قومية ما، فإنها أيضًا لا تؤسِّس مشروعًا وطنيًا بل مشروعَ غلبة وقهر، ومشروع نزع صفة الوطنية في المآل عن “جزء” أو “أجزاء” من المجتمع أو اعتبار موطني هذا “الجزء” أو ذاك موطنين من الدرجة الثانية.
ينبغي للمشروع الوطني أيضًا أن يكون منفتحًا على الكونية والإنسانية، لا أن توضع خصوصية المجتمع سيفًا في وجه كل تطور أو انفتاح، والخصوصية الوحيدة التي ينبغي الاحتفاء بها لأي مشروع وطني هي تلك المنفتحة على التطور والعصر والحداثة؛ فالزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء، ولا يمكن استعادة تجارب التاريخ وفرضها على الحاضر، وإن حصل بالقوة والسلاح فهو وجود مؤقت معاند للعقل ومسار الحياة، ولا يلبث التاريخ أن يمحوه، لكن بعد أن ندفع ضريبة ثقيلة من حياتنا.
من هذا المنطلق ينبغي النظر إلى الهوية الوطنية، وهوية أي فرد/مواطن، بوصفها هويات متجدِّدة دائمًا؛ فالمشروع الوطني يسمح بإعادة إنتاج هوية الدولة والوطن وهويات أفراده باستمرار في ظل بيئة ديمقراطية، ما يعني أن المشروع الوطني، والدولة الوطنية أساسه ومرتكزه، سيكون له تأثير نوعي على الأفراد و”الأجزاء” المتنوعة في المجتمع، ومن ثمّ لا يمكن التعاطي مع الهويات الموروثة، الفردية أو الجماعية، بوصفها جواهر ثابتة لا تتغيّر أو تتحوّل. في المشروع الوطني الفرد هو أساس بناء الدولة والوطن، وليس الجماعات المغلقة على نفسها، أكانت دينية أو طائفية أو إثنية، وكثير من حقوق الجماعات هي حقوق فردية أساسًا، حقوق المواطنة. في أغلب الأحيان تحجز الجماعات الموروثة أفرادها في هوياتها، وتمنعهم من التطور أو لا تضع أي احتمال لأن يتغيروا ويعبِّروا عن هويات مكتسبة جديدة.
ثمة مشروعات سياسية عديدة تُطرح في “السوق السياسية” اليوم، بعضها خارجي، وبعضها الآخر سوري محلي. المشروعات السورية كلها تقول عن نفسها إنها وطنية أو جامعة، لكن بقليل من التدقيق في لغتها وخطابها، نكتشف أن معظمها ليس جامعًا ولا وطنيًا/ عموميًا. إنها مشروعات تجميعية وليست جامعة، تظن أنها إن جمعت الطوائف والإثنيات تحت سقف الأرض السورية، فإنها تكون بذلك وطنية أو جامعة. الصفة الوطنية أو الصفة الجامعة تتجاوز منطق التجميع، والجمع الحسابي، إلى تخليق صفة نوعية جديدة هي “الوطنية السورية”، تصبح منطلق ومستقر الأداء السياسي كله، وهي الصفة التي لم نتعرف إليها، ولم نعش في كنفها، إلا قليلًا، ربما في عهد ما بعد الاستقلال.
ينبغي أيضًا للتفكير في المشروع الوطني أن ينطلق من الواقع والحاجة والهدف؛ بمعنى أهمية وضرورة الانطلاق من واقع البشر وحاجاتهم وأهدافهم، لا من المعتقدات والهويات والأيديولوجيات. هناك اليوم قضايا تستحق التفكير فيها، والعمل من أجلها، وقضايا أخرى تأخذ من وقت الجميع وتنهكهم وتفرِّق بينهم، كونها توضع على مائدة النقاش في مرحلة هزيمتنا وانكسارنا وتوترنا، مثل الأعراق والقوميات، العقائد والأيديولوجيات، الأديان والمذاهب والطوائف… إلخ، وهي قضايا لا تطعم الناس اليوم، ولا تخلق لهم السعادة، ولا تغيِّر حياتهم؛ إنها فحسب تنشر الكراهية، وتخلق الحواجز بين البشر، وتدفعهم إلى التخندق والقتال والموت، وتعطيهم شعارات ووعودًا بحياة سعيدة لم يعيشوها.
أما القضايا التي تستحق التفكير فيها، في سياق العمل على بناء مشروع وطني، فهي لا تكاد تحظى باهتمام المشروعات الوطنية المطروحة؛ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، نظام الحكم الديمقراطي وآلياته، حرية تشكيل المنظمات والجمعيات، حرية الفكر والإعلام، استقلال القضاء، التعليم المدرسي، التعليم الجامعي، البحث العلمي، التنمية البشرية، نظام الصحة والضمان الصحي، التصنيع والزراعة، نظام التقاعد والضمان الاجتماعي، النظام الوظيفي والحد من البيروقراطية، نظام المرور والمطارات والشوارع، نظام الرواتب، العدالة الاجتماعية، آليات محاربة الفساد وصون الثروات الوطنية، الحدائق والمنتزهات والآثار والبيئة… إلخ.
يحتاج المشروع الوطني، في هذه المرحلة، إلى رعاية وعناية، وإلى الارتقاء به ليستحق اسمه، وليكون وطنيًا وجامعًا حقًا، وهذا غير ممكن من دون التفكير العقلاني بمستلزماته وضروراته وبديهياته، وإلا فإننا لا نفعل شيئًا سوى إضافة مزيد من التشويش والتضليل من جهة، وصناعة الكراهية والفرقة والتشظي من جهة أخرى، فضلًا عن “بهدلة” وتقزيم مفهوم “الوطنية” ذاته، في وقت نظن فيه أننا نعمل وننجز.
المصدر: المدن