هذا سؤال دقيق في الحقل السياسي، وتواجهنا مسألتان رئيستان في سياق مقاربته؛ الأولى، ينبغي للإجابة عن سؤال احتمالية التطبيع بين النظام السوري و”إسرائيل” أن تتحلى بقدر كبير من الموضوعية، بمعزل عن الموقف المعارض تجاه النظام وسياساته الداخلية، وبعيدًا عن الرؤى الضيقة التي تنحو باتجاه مقاربة أداء سياسته الخارجية بالأدوات نفسها التي نستخدمها لتشخيص أدائه في الداخل السوري. أما المسألة الثانية، فهي أن أي إجابة عن هذا السؤال يجب أن تتحلى بالتواضع، إذ لا يمكن تأكيد أو نفي أي من الاحتمالات الممكنة بصورة نهائية، لأننا أمام واقع متحرك ومتغيِّر بصورة كثيفة في سورية، وفي الإقليم، فضلًا عن التغيرات الدولية المؤثرة والفاعلة في الوضع السوري والإقليم، وآخرها الانتخابات الأميركية، وتأثيرها في قضايا المنطقة، خصوصًا ما يتعلق بالموقف من إيران، فضلًا عن أنه قد ظهر، خلال العقد الفائت، أن هناك مفاجآت يمكن أن تفلت من التحليل السياسي الموضوعي، كوننا لا نستطيع الإحاطة بالواقع بصورة كلية، ومن ثمّ لم يكن من النادر أن يأتي تبرير أو تفسير أي مسار أو موقف أو توجه، بعد الحدث، لا قبله.
هل يمكن أن يلجأ النظام السوري إلى تطبيع علاقاته مع “إسرائيل”، في اللحظة الحالية، للخروج من عزلته؟ هناك ثوابت علنية معروفة لدى النظام السوري، لكنها عمومًا ليست كذلك على أرض الواقع؛ فالبراغماتية تطغى في سلوكاته ومواقفه كلها، وقد عودنا النظام على أنه قادر على تقديم تنازلات غير متوقعة أمام الخارج عندما تشتد الضغوط عليه، أو في الأحرى عندما لا يجد أي مخرج آخر باستثناء الاستجابة للضغوط، لكنه لا يقدِّم أي تنازلات في الداخل السوري، حتى لو كانت تتعلق بقضايا بسيطة.
في مثل هذه الأحوال الضاغطة، يمكن أن تلجأ السياسة الخارجية السورية إلى كسب الوقت؛ يطرح النظام مثلًا استعداده لاستئناف المفاوضات مع “إسرائيل”، ويمكن أن يعبِّر عن مرونة فيما يتعلق بطريقة عودة الجولان إلى سورية، تدريجيًا وعبر زمن طويل نسبيًا، مع الاحتفاظ بمساحة مقبولة للمناورة تسمح له بالتنصل من أي التزام، لكنه سيتمكن من خلال هذه المناورة، كالعادة، من تخفيف الضغوط عليه مؤقتًا بانتظار تطورات أخرى في الواقع.
لذلك، لا يُتوقّع أن يغيِّر النظام السوري مواقفه فيما يتعلق بإسرائيل، والتطبيع معها، إلا في لحظة استثنائية جدًا؛ وصوله إلى لحظة المفاضلة الحادة، والواضحة، بين رحيله من جهة، وبقائه في السلطة بشرط التطبيع مع “إسرائيل” من جهة أخرى، أي عندما يُخيَّر بوضوح بين موته وبين حياةٍ يُمكن أن تُمنح له مقابل التطبيع. وفي حال وصل النظام إلى هذه اللحظة، سيطالب، وحلفاؤه أيضًا، بالحصول على تطمينات كافية لاستمراره مقابل الاستجابة للضغوط بشأن التطبيع. لكن، أعتقد أن النظام لم يصل إلى هذه اللحظة، وربما لن يصل، أو في الأحرى لا يوجد ما يؤشر على إمكانية وصوله في الأفق القريب إلى هذه اللحظة. فالسياسة الأميركية، بوصفها العامل الحاسم في هذه النقطة، ما زالت تؤكد أن هدفها هو تغيير سلوك النظام السوري لا رحيله، فضلًا عن قوة داعميه وهزالة معارضيه.
على الرغم من رغبته في إعادة تعويم نفسه، لا توجد مصلحة للنظام في التطبيع مع “إسرائيل”، في اللحظة الراهنة، خصوصًا أنه سيكون بلا مقابل، وسيخسر أكثر كثيرًا مما سيربح في حال جرى الدفع بهذا الاتجاه، فميزان القوى لديه خاسر على المستويات كلها، وقد كان كذلك طوال عقود، لكنه ليس بالدرجة التي وصل إليها اليوم، أكان ذلك على المستوى الداخلي، أو على مستوى علاقاته الخارجية وتحالفاته. التطبيع في اللحظة الراهنة، سيربك النظام على مستوى إعادة ترتيب توازناته وعلاقاته الإقليمية والدولية التي ما زالت تحافظ على وجوده، على الرغم من هشاشته، تلك العلاقات التي استثمر فيها كثيرًا، خصوصًا مع إيران وحزب الله والأحزاب القومية العربية واليسار العربي عمومًا. وسيخسر أيضًا في الداخل، فحزبه الحاكم ما زال أساس وجوده واستمراره هو موقفه المعلن من “إسرائيل” والقضية الفلسطينية.
النقطة الوحيدة، في الوضع الراهن، التي يمكن أن تدفع النظام للتطبيع مع “إسرائيل”، هي استعداد “إسرائيل” لإعادة الجولان، ولو بالتقسيط المريح، فما زال النظام يرهن أي توجه للتطبيع مع “إسرائيل” بتخليها عن هضبة الجولان، وهو ما يعتبر أمرًا بعيدًا ومستحيلًا بالنسبة إلى “إسرائيل” في هذه اللحظة، خصوصًا بعد الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. لذلك، فإن خيار الامتناع عن التطبيع بلا مقابل هو خياره الأمثل، لأنه يبقيه منسجمًا مع خطابه المعلن، ولارتباط هذا الخيار بوجوده أساسًا. هناك عناصر قوة لدى النظام، على الرغم من هشاشته، تساعده في اعتماد خيار الامتناع؛ ثقل إيران في سورية، موقع سورية الجيوسياسي في المنطقة، عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للجولان دوليًا، وفي قرارات الأمم المتحدة.
لا تدفع الضغوط الأميركية، بدرجتها الحالية، وأهدافها المعلنة، النظام السوري تجاه خيار التطبيع مع “إسرائيل”، وهو يستطيع أن يقاوم هذه الضغوط، ويبقى مستمرًا في الحكم، على الرغم من ضعفه، ومن سوء الوضع الداخلي. وفي الأحرى، يبدو أن الضغوط الأميركية مصمَّمة بطريقة قادرة على إيلام النظام وإرباكه، لكنها لا تتضمن إيصاله إلى لحظة يصبح فيها قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
هناك محطات عديدة سيمرّ بها قطار التطبيع قبل أن يكون هناك احتمال لتطبيع النظام السوري مع “إسرائيل”. أعتقد أن النظام السوري، إن كان هناك احتمال للتطبيع أصلًا في اللحظة الحالية، لا يُقدم على التطبيع قبل أن تذهب السعودية، وغيرها، في هذا الاتجاه، ليكون النظام آخر “المطبِّعين” بمعنى ما، فهذه نقطة مهمة في تفكيره في حال اضطر إلى خيار التطبيع.
هل تريد أميركا حدوث تطبيع بين النظام السوري و”إسرائيل”؟ ترغب أميركا في ذلك، لكنها تعلم أن النظام السوري غير راغب في ذلك، أو لا يستطيع، من دون الحصول على الجولان، ولو عبر اتفاقات طويلة الأمد، فالحالة السورية مختلفة عن الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وغيرها من الدول التي لا توجد لها أراضٍ محتلة من قبل “إسرائيل”. وتدرك أميركا أيضًا أن التطبيع بين النظام و”إسرائيل” أصبح مسألة مرتبطة كثيرًا بموقف إيران ودورها ووجودها في سورية، أي أن مسألة التطبيع أصبحت جزءًا أو بندًا لا يمكن السير فيه من دون حل الصراع الأكبر بالنسبة إليها، أي الصراع مع إيران.
هل يمكن أن تغيّر واشنطن سياستها تجاه النظام السوري عبر بوابة التطبيع مع “إسرائيل”؟ يحاول حلفاء النظام تعويمه وإعادته إلى الساحة الدولية وانتشاله من أزماته، لكن محاولاتهم تواجه عقبات عديدة، في مقدّمها الرفض الأميركي المترافق بتحذير الدول من التطبيع مع النظام، فما زالت أميركا تشترط على النظام تغيير نهجه والذهاب إلى حل سياسي للصراع السوري، بحسب قرار الأمم المتحدة رقم 2254، وإن كنا نعتقد أن رهان واشنطن الأساسي هو دفع النظام السوري للابتعاد عن إيران. ولذلك قد يحاول بعض حلفاء النظام، مثل روسيا والإمارات العربية، صناعة مبادرات تدعو إلى التطبيع مع “إسرائيل” كمدخل لإعادة إحياء النظام، وتقليم أظافر إيران في سورية، لكن نجاح مساعيها سيصطدم بإيران.
أما إيران، التي تحاول الإمساك بالملفات الأساسية في المنطقة، ومنها ملف التسوية بين النظام و”إسرائيل”، بما يسمح بخروجها من مأزق العقوبات، واتضاح مصير الملف النووي، فإنها لا تمانع، في الحصيلة، تحريك المياه الراكدة حول النظام، لكنها أيضًا لن تخضع نفسها لأي التزامات، بل على العكس، ستحاول استغلال اللحظة وزيادة ثقلها في بنية النظام سياسيًا واقتصاديًا، ويمكن أن توافق على انسحاب عسكري جزئي، أو الحدّ من وجود قواتها في سورية، أو الابتعاد عن الحدود مع “إسرائيل” بقدر المسافة المطلوبة أميركيًا وإسرائيليًا، في حال حصولها على مكتسبات سياسية واقتصادية إضافية في سورية.
في الحصيلة، أعتقد أن الظروف لم تنضج بعد لمرور قطار التطبيع بدمشق، وقد لا تنضج أبدًا، بحكم ارتباط هذا الملف بقضايا أخرى معقدة ومتشابكة، أهمها مصير النظام السوري، وتطورات الموقف الأميركي تجاهه، والعلاقة الصراعية بين أميركا وإيران، والوجود الإيراني والروسي في سورية. أما من جهة “إسرائيل”، فإنها غير مستعجلة، ولا تعاني من ضغوط على هذا المستوى، وما حصل في سورية طوال العقد الفائت أكبر كثيرًا مما كانت تتمناه في أحلامها، والحالة الوحيدة التي يمكن أن تراها مفيدة لها، في اللحظة الراهنة، هي التطبيع بلا مقابل، واستمرار احتلالها للجولان.
المصدر: المدن