ثمّة مسوّغات متعدّدة لما أطالب به من تسوية تاريخية بين أطياف العمل السياسي السوري المعارض، ديمقراطيةً كانت أو إسلامية أو قومية أو مدنية … إلخ، منها أن مطالب هذه الأطياف جميعها لا بد من أن تتقاطع في التسوية التي يجب أن تحقق الهدف الرئيس لكل طرفٍ فيها، من دون أن يكون تحقيقها على حساب غيرها، بما أن أيا منها لن تبقى بعدها على وضعها السابق، وإنما ستمر جميعها، خلال إنجاز التسوية، في تحوّل ستفقد معه ما لا يتفق مع هدف التسوية المشترك: تراكم قدر من القوة المعنوية والمادية، السياسية والتنظيمية، من شأنه أن يقلب موازين القوى بين الشعب والأسدية، ويعد الشروط الضرورية لإقامة نمطٍ من الدولة، وظيفي ومتفاعل مع التيارات التي تنخرط فيه، بكل ما تعنيه كلمة الوظيفية من ترجيح واقعي لقيام سورية الجديدة على الإفادة من تشابكات الفاعلين، السياسيين والمدنيين، التي يلتزمون بتطويرها ويتعهدون بتنميتها عبر التسوية، بحيث لا يعتقد الديمقراطيون أو الإسلاميون أو القوميون .. إلخ أن النظام الجديد ليس من صنعهم، وليس تشاركيا بينهم، ولجميع السوريين.
إلى جانب العامل الحاسم، وهو أن أيا من القوى السياسية لن يتمكّن من إسقاط الأسدية بمفرده، هناك عوامل أخرى كثيرة تبرّر “التسوية التاريخية”، أهمها:
أولا، تناقض قوى (وتيارات) التسوية مع الأسدية عدائي، ولا يحل بغير إزاحتها له، أو إزاحته لها، بينما تعتبر خلافات تياراتها وأحزابها مشكلاتٍ يمكن تخطيها بالحوار، والتسويات، والحلول الوسط، والتنازلات المتبادلة، أو ما يفترض بالتسوية تحقيقه، في سياق إقامتها من دون عنف أو إزاحة، وبالتكافل والتكامل هدفا لجهود القائمين عليها. في وضعنا الراهن، ترقى خلافات المعارضة إلى سوية تناقضاتٍ عدائية، لن يمكن التخلص منها من دون تنافس متبادل بينها، ما يخدم الأسدية: عدوها المشترك المزعوم الذي تمكّنه طرقها في الاختلاف من التلاعب بها، مثلما حدث طوال فترة ما قبل الثورة وما بعدها، عندما تحوّل عداؤها لنظام القتل إلى تزاحم عبثي بينها على سلطةٍ وهميةٍ، خال معظم أطراف المعارضة أنها توشك على السقوط في حجره، ما إن تُسقط واشنطن الأسد، فلا مفرّ من إبعاد الآخرين عنها بأي وسيلة وطريقة من وسائل وطرق الإزاحة السرية والعلنية، وصولا إلى تكبير حصته على حساب الآخرين.
ثانيا، أسّس دخول الشعب الاقتحامي والموحد ساحة الثورة بيئة غير مسبوقة في تاريخ سورية لإعادة تعريف الأحزاب الديمقراطية والإسلامية والقومية والمدنية على أرضيةٍ تاريخيةٍ جديدة، تحرّرها من طابعها النخبوي المحدود، وعلاقاتها الواهية، والبرّانية، بالواقع، وتمكّنها من إعادة تأسيس نفسها في إطار مشترك وتوافقي، لا ينهض على حزبيةٍ مفصولةٍ عن أولوية المصالح الوطنية والجامعة التي تستوجب، بل وتحتم، توحيد تعبيراتها، وما يتصل من أنشطتها بالعمل العام، وتحرّرها من عزلتها وتناقضاتها القائمة على الإزاحة والتنافس المفعم بالعداء الذي لطالما عزّز ضعفها وتبعثرها، وخدم الأسدية، وأدّى إلى تراجع الثورة واستيلاء عدوهم الإرهابي/ الأصولي والأسدي على معظم مواقعهم. سيرتكب العاملون في الحقل السياسي جريمةً سياسيةً كاملة الأركان، إن استمرت تناقضاتهم في تفتيت حاضنةٍ اجتماعيةٍ فشلوا في التموضع داخلها، حتى بعد أن صنعت الثورة، بيد أنهم لم يقرأوا دلالاتها التاريخية، ومعانيها الاستثنائية الأهمية بالنسبة لحاضر الصراع ومستقبله في وطننا وعليه، كما لم يدركوا خطورة ما ألحقه تزاحمهم من ضررٍ كارثي بالشعب، وبتمرّده العظيم.
ثالثا، لترقية السياسة، يجب ترقية تمثيلاتها عبر تسوية تاريخية تبدّل دورها في الشأن العام، الوطني والديمقراطي، بالإفادة من تمرّد الحرية، وتضحيات الشعب وصموده الأسطوري الذي حوّله إلى طليعة تفتقر اليوم إلى تمثيل سياسي منظم، ستكون التسوية التاريخية حاضنتها المعبرة عن جديد التاريخ، والتي ستخرجها من العجز، وتلبي حاجة السوريين إلى الحرية.
المصدر: العربي الجديد