شهدت المرحلة التالية لثورات الربيع العربي طفرة كمّيةً لأعمال أدبية يحيل فحواها، وتفصح مضامينها، عن ضروب من حيوات استثنائية عاشها السوريون، كما تجسّد تلك الأعمال شطراً من المعاناة كان مستوراً لعقود من الزمن، بفعل عوامل القمع التي مارستها السياسات المستبدة والمتوحّشة لأكثر السلطات العربية الحاكمة. ولئن كانت الحالة السورية تجسّد تميّزاً في تدفّق هذا النوع من الأدب، نظراً لتفرّد السلطة السورية الحاكمة من حيث شدّة تسلّطها ووحشيتها، إلّا أن هذا التدفّق ما يزال بحاجة إلى الكثير من التمحيص والتصنيف، فضلاً عن معاينة تحيط بتلك الأعمال من جوانبها كافة، ولا تقتصر على جانبها الانفعالي والمثير فحسب، بل لعله من السابق لأوانه ان يتحدث المرء عن سمات وملامح فنية خاصة بأدب السجون في سورية، ذلك أن معظم ما صدر أو نُشر من أعمال أدبية، ما يزال بعيدا عن دائرة النقد والدراسات.
لقد باتت مرويات المعتقلين السوريين بعد الثورة، احد المصادر الأساسية للجهات الحقوقية والقانونية التي تعنى بتوثيق فظاعات نظام الأسد بحق المعتقلين، كما باتت تلك المرويات ذاتها، هدفاً لمختلف وسائل الإعلام التي تحاول تسليط الضوء على واقع السجون السورية، سواء في مرحلة ما قبل الثورة، أو بعدها.
أدب السجون السورية – باعتباره جزءاً من هذه المرويات – بات ظاهرة لافتة، كونه ظهر كطفرة دافقة، بعد حالة كمون استمرت طيلة عقدين من الزمن، هذا الكم الكبير من النصوص الذي ولد في الزنازين والأقبية المظلمة، واستطاع الوصول إلى متناول القراء، سواء ما كان منه منشوراً على الورق، أو متداولاً على الشبكة العنكبوتية، اتّسم بسمات عدّة، يمكن لنا الإشارة بإيجاز إلى أبرزها، ومن ثم التوقف عند إحداها بقليل من التفصيل.
سمات عامة
1 – الغزارة والتنوّع، ولعل هذه السمة منبثقة من الخصوصية التي انفردت بها فداحة المأساة السورية، ذلك أن التوحّش الأمني الأسدي لم يكن حالة استثنائية في حياة السوريين، بل إن السطوة الأمنية التي مارست شتى أشكال البطش، كانت هي الحالة الملازمة للسلطة السياسية، بل هي إحدى الحوامل الأساسية التي ضمنتْ لآل الأسد استمرارهم في السلطة منذ عام 1970
وحتى الوقت الراهن، فضلاً عن أن حالات الاعتقال طويل الأمد، التي طالات عشرات الآلاف من السوريين، ومن شرائح إجتماعية متنوعة، قد أفرزت سرديات غزيرة ، ربما أمكن تصنيف قسم منها على أنها أجناس أدبية ( رواية – قصة – شعر – نصوص أخرى ).
2 – أسهمت هذه السرديات والنصوص الأدبية جميعها، في فضح الوجه القبيح للمارسات السلطة الأسدية، وذلك من خلال تجسيدها لأدق تفاصيل أشكال وأدوات التعذيب، وكذلك تفاصيل الحياة اليومية للمعتقلين داخل السجون، كما أظهرت بصدق، طبيعة التوحّش التي وسمت منهج نظام الأسد في التعامل مع خصومه السياسيين.
3 – الطابع التراجيدي الطاغي على السرديات الأدبية جعل منها نصوصاً ملتصقة بحالات الوجع الإنساني، وقلّما تحفل بأبعاد معرفية عميقة، وذلك بحكم المكان والزمان، والحالات الشعورية التي ولدت فيها تلك النصوص.
4 – تفاوت المستوى الفني فيما ينضوي تحت مسمى ( أدب السجون)، وقد أسهم في تعزيز نسبة هذا التفاوت غياب الجهود النقدية التي من شأنها تسليط الضوء على هذا الصنف من الأدب، وبيان ما هو أدبي منه، وما لا يرتقي إلى مستوى الأدب.
5 – حيازة هذه الظاهرة الأدبية على تعاطف من جمهور كبيرمن القراء، إنما مبعثها المضامين والقضايا التي تقوّمت عليها النصوص في الغالب الأعمّ، وليس الحوامل الفنية الناهضة عليها، مما يجعلنا في كثير من الأحيان نسعى للتمييز بين سردية تجسّد حالة إنسانية تحظى بالاحترام والتعاطف، ولكنها خالية من مقوّمات الادب، وبين عمل ادبي انطوى على تجربة إنسانية عميقة، ولكنها ازدادت عمقاً وإدهاشاً من خلال تجسيدها جمالياً، ويبقى العامل الفارق والأهم – كما أعتقد – بين الحالتين، هي عملية (الخلق الفني أو الجمالي) التي لا يمتلكها سوى الكاتب المبدع، وليس صاحب التجربة فحسب.
حضور الفنون السردية وغياب الشعر
ولعل هذه السمة هي الأبرز- من حيث الكم – فيما صدر أو نُشر من أدب السجون ، حيث سادت الأعمال النثرية، وبخاصة الرواية، وانحسر الشعر، ولم تكن هذه السمة تطال أدب السجون وحده، بل أضحت السمة الطاغية على أدب العصر برمته، إلّا أن مبررات شيوعها في أدب السجون تغدو أكثر مشروعية، وإنْ شئنا الذهاب مع ( ميخائيل باختين) لمضينا بالقول: إن الرواية – كجنس ادبي – هي الأقدر على استيعاب التحولات الاجتماعية لدى معظم شرائح المجتمع، وبفضل ما تمتلكه الرواية من مرونة في اللغة، ورصد للتفاصيل الحياتية الدقيقة، وامتداد مساحتها الزمانية، فإنها بذلك، تكون الأقدر على تجسيد، ومن ثم إعادة خلق الواقع، وفقاً لرؤية الكاتب وتصوراته، في حين أننا نجد الشعر هو نتاج حالة شعورية غاية في التكثيف، مشحونة بطاقة وجدانية عالية، قوامه التوتر، لا يحتمل المزيد من البرودة والهدوء، كما لا يحتمل الدخول في التفاصيل، بل يتناول ( الكليات) وفقاً لأرسطو، فضلاً عن أن لغة الشعر، هي لغة إيمائية، توحي ولا تفصل، لغة مكتنزة بطاقات مجازية وخيالية، فهي في الغالب تعتمد الإشارة لا التصريح. ولئن كان الشعر قادراً على النفاذ إلى عمق المواقف والتجارب الإنسانية، بغيةَ خلْقها فنياً، وتجسيدها جمالياً، إلّا أن عملية الخلق هذه، ستكون موسومة بتداعيات اللحظة الشعورية الآنية للمبدع، وذلك على حساب الجانب الجزئي الموضوعي الذي تستطيع الرواية المحافظة عليه. وفضلاً عن ذلك يمكن الإشارة إلى عدّو أسباب أخرى، أسهمت في تسيّد القصة والرواية على حساب الشعر، لعلّ أبرزها:
1 – ما صدر أو نُشر من روايات ومجموعات قصصية لا تشير جميعها إلى أنها كُتبت داخل السجون، بل إن التصنيفات الأولية تؤكّد ان ثمة نوعين من الكتابات، فهناك كتاب أصدروا أكثر من عمل أدبي دون أن تكون لهم تجربة في السجن، كالكاتب نبيل سليمان الذي نشر روايتين هما ( السجن – سمر الليالي)، في حين أننا لم نر أو نسمع ان شاعراً اصدر ديواناً شعرياً يتحدث مضمونه عن السجن، دون أن تكون له تجربة في السجن او الاعتقال، اما النوع الثاني من الكتابات فهي التي قد خطّها كتّاب كانت لهم تجارب حقيقية في الاعتقال، وربما يكون الكاتب إبراهيم صاموئيل في طليعة هؤلاء، إذ اصدر ثلاث مجموعات قصصية عن أدب السجون، كما لا يمكن إغفال رواية ( القوقعة) للكاتب مصطفى خليفة، ثم رواية ( قبل حلول الظلام) للكاتب معبد الحسون، وأصد عبد الرحمن مطر روايته ( سراب بري) كما كتب آرام كربيت روايته ( الطريق إلى الجهول) ورواية الكاتب راتب شعبو( ماذا وراء هذه الجدران)،ستاني كما أصدر مالك داغستاني ( دوار الحرية)، بالإضافة إلى الأعمال النثرية العديدة التي يصعب حصرها.
2 – تتيح الرواية أو القصة – بحكم خاصتها النوعية – للكاتب الابتعاد – زمنياً – عن لحظة الحدث، أعني انها لا تكون تجسيداً مباشراً أو آنياً للحدث، بل يمكن الذهاب إلى أن معظم ما صدر من أعمال روائية أو قصصية ، إنما كانت أحداثها مخزونة في ذاكرة أصحابها، ومن ثم شرعوا في الكتابة بعد خروجهم من السجن، في حين أن القصيدة الشعرية لا تحتمل التأجيل كثيراً، صحيحٌ أن الشعر ليس صدًى آنياً للحدث، ولكن لحظة الاختمار والكمون الإبداعي لا تنتظر طويلاً، فهي – في غالب الأحيان – كالجنين الذي إن تأخرت لحظة ولادته، فإما أن يموت أو يولد مشوّهاً. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن الشعراء الذين استطاعوا إخراج نتاجهم الشعري من داخل السجون هم قلائل، نظراً للظروف الأمنية التي تفرضها السلطات على السجون، وبخاصة سجن تدمر، وعلى الرغم من ذلك، فثمة من الشعراء استطاع ان يُخرج نتاجه الشعري بطرق شتى، كما تمكن فيما بعد من طباعتها ونشرها، كالشاعر فرج بيرقدار، على سبيل المثال لا الحصر، كما ان هناك من الشعراء من استطاع أن يحفظ نتاجه الشعري بذاكرته، وخاصة ممن كان في سجن تدمر الذي تنعدم فيه كل وسائل الكتابة، فضلاً عن التشديد الأمني الأسطوري من جانب السلطات القائمة على السجن.
3 – لقد خضع الفن الروائي – مثله مثل بقية الأجناس الأدبية – لأشكال جديدة من الكتابة، ولم تعد الأشكال التقليدية للكتابة الروائية متسيّدة كما هي في السابق، الأمر الذي أحدث ما يشبه بافتقاد المعايير الفنية واضطراب الأصول، مما أتاح المجال للعديد من الأشكال السردية أن تدخل تحت قبة الرواية. ولعل هذا ما أثار حفيظة النقاد الذين طالما اشتكوا من افتقار العديد من نتاج السجون إلى الحوامل الفنية التي بدت شبه غائبة عن العديد من روايات وقصص السجون.
4 – تتسع أطياف الكتابة الصادرة عن السجون إلى أشكال أخرى تتجاوز الرواية أو القصة والشعر، إذ آثر بعض المعتقلين أن يكتبوا مذكراتهم بأسلوب يمزج بين الادب والمادة الصحفية، كما فعل بسام يوسف في كتابه ( حجر الذاكرة)، ومنهم من أراد مقاربة تجربة الاعتقال من جانب ثقافي، فبحث بالآثار التي يتركها السجن على البناء الفكري والثقافي والمعرفي على السجين، من خلال تجربته في المعتقل، كما فعل ياسين الحاج صالح في كتابه ( بالخلاص يا شباب).
وعلى الرغم من الوفرة التي بدأنا نشعر بها فيما يصدر من أعمال يتحدث أصحابها عن تجاربهم في المعتقلات السورية، إلّا ان هذا النتاج الأدبي بكافة أشكاله، وإن كان يجسّد ظاهرة جديدة في سورية لم نألفها من قبل، إلّا أن غياب النقد والدراسات البحثية وعدم مواكبتها لهذه الظاهرة، تجعل ادب السجون ما يزال يراوح في طوره التراكمي الكمي، دون أن تكون له ملامحه وسماته الفنية الخاصة به.
المصدر: مجلة أوراق