جاء اتفاق إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الإمارات والكيان الصهيوني في إطار ما سمّي اتفاق أبراهام، يوم 13 أغسطس/ آب 2020، تبعتها البحرين يوم 11 سبتمبر/ أيلول، دفعة لحساب حملة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، الانتخابية، على أمل أن يحدث فارقاً في اتجاهات الرأي العام الأميركي الذي عكست استطلاعات الرأي ميله إلى انتخاب المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، عبر شد عصب المسيحيين الصهاينة من أتباع الكنيسة الإنجيلية، بإضافة مكسب جديد للكيان الصهيوني، بعد الهدايا المجانية التي قدّمها له من الاعتراف بالقدس عاصمة له، وبضمه الجولان السوري المحتل، وصولاً إلى إسباغ الشرعية على عملية الاستيطان النشطة وتأييد ضم مساحات واسعة من الضفة الغربية وكل غور الأردن، بحيث يقود (الفارق) إلى فوزه بدورة رئاسية ثانية، تسمح بمواصلة حملة “الضغط القصوى” على جمهورية إيران الإسلامية، من أجل إضعافها وإخراجها من المشرق العربي.
برّرت الإمارات والبحرين اتفاقهما السياسي مع الكيان الصهيوني بالضرورة الأمنية، على خلفية الهواجس والمخاوف التي شكّلتها وتشكلها جمهورية إيران الإسلامية التي لم تكتف بمواصلة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، بل ووسّعت دائرة تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، باعتماد استراتيجية هجومية على خلفية عقائدية تحت شعار “تصدير الثورة” و”نصرة المستضعفين”. الأولى موجهة إلى الدول الإسلامية والثانية موجهة إلى الدول الأجنبية، حوّلتها إلى التزام رسمي من خلال إدراجها في نصّ الدستور الإسلامي. وقد دفعها فشلها في “تصدير الثورة” بالطرق السلمية، وتحقيق التغيير المنشود في الدول الإسلامية؛ وانخراطها في حالة عداء مزمن ومواجهة صفرية مع الولايات المتحدة، إلى تغيير تكتيكها من استقطاب الدول الإسلامية إلى اختراقها؛ باستثمار المظلومية الشيعية فيها، وربط المواطنين الشيعة بها عبر المطالبة بحقوقهم المشروعة؛ وتوظيفها في كسب موطئ قدم في الدول التي ينتمي قسم وازن من مواطنيها إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، المذهب الرسمي في إيران، وتوظيف قدراتها المالية الضخمة في تشييع مواطنين جدد من أجل توسيع دائرة نفوذها وزيادة قدرتها على التأثير، واستثمار استتباعهم في إقامة كياناتٍ سياسيةٍ ومليشيات مذهبية وتدريبها وتسليحها، للعب دور “مخلب قط” في هذه الدول، عبر تأجيج الصراع الطائفي، والتركيز على دول جوار فلسطين، وتحويلها؛ هي والفصائل الفلسطينية التي استقطبتها عبر الدعم المالي والعسكري الضخم، إلى قوى رديفة واستخدامها في حروبٍ بالوكالة، وفي لعب دور خطوط دفاع لحماية الأمن القومي الإيراني، وأداة ضغط على الولايات المتحدة، لردعها عن مهاجمتها وإسقاط نظامها عن طريق التهديد بالانتقام من طفلتها المدلّلة: إسرائيل. قال القائد السابق لفيلق القدس؛ التابع للحرس الثوري الإيراني، الجنرال المقتول، قاسم سليماني، “إنه خلق عشر إيرانات خارج إيران”.
لعبت استراتيجية الاختراق دوراً كبيراً في الإنجازات التي حققها النظام الإيراني في الخارج القريب: اختراق أكثر من دولة عربية، والسيطرة على جزء مهم من قرارها الوطني، واستخدامها ورقة في المساومات والمقايضات السياسية مع القوى الإقليمية والدولية. يتباهى قادة إيرانيون بالسيطرة على بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء، وبعودة الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد. ما حوّلها (إيران) إلى كابوس لدول عربية وإسلامية كثيرة، وإلى تحدٍّ للكيان الصهيوني وفرصة له في آن. تحدٍّ كونها قوة وازنة، كتلة بشرية كبيرة؛ مساحة واسعة وموقعاً جغرافياً مهماً، وموارد نفطية وغازية ضخمة، مستويات ثقافية وعلمية جيدة، خصوصاً بعد تطوّر قدراتها العسكرية: البرنامج النووي والصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة والغواصات الصغيرة والزوارق السريعة، وفرصة؛ لأنها أثارت مشكلاتٍ أمنيةً واجتماعية للدول العربية، بتهديد سلمها الأهلي عبر تفجير حساسياتٍ طائفيةٍ بين مواطنيها وتمزيق هويتها الوطنية، فتحوّلت إلى العدو الأول لهذه الدول، ما خفف من حدّة عداء هذه الدول له، على قاعدة عدو عدوي صديقي، والتحوّل من حالة العداء إلى حالة التفهم والمغازلة والأبواب المفتوحة مع كيانه. حمّل نائب إيراني محافظ بلاده مسؤولية دفع دول عربية إلى الارتماء في أحضان إسرائيل.
استثمرت الولايات المتحدة هواجس الدول العربية ومخاوفها من إيران، فعملت على استدراجها إلى التعاون مع الكيان الصهيوني، عبر تشكيل نظام أمن إقليمي، أو ناتو عربي، على شاكلة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مكون من دول مجلس التعاون الخليجي الست والأردن ومصر، ينسق معها ومع الكيان الصهيوني، بذريعة احتواء إيران وتقليص نفوذها وإعادتها إلى حدودها الطبيعية.
غير أن فشل الدول العربية في تنفيذ المشروع، على خلفية التباين في المواقف؛ حول الصيغة والأدوار والمقرّ والتمويل؛ دفع الولايات المتحدة إلى مراجعة خطتها واستثمار الحاجات والضرورات الأمنية والسياسية والاقتصادية لكل دولة عربية على حدة، والعمل على دفع دول عربية بعينها إلى الانخراط في علاقاتٍ سياسية، مباشرة وعلنية، مع الكيان الصهيوني، واعتباره، الانخراط، بالنسبة لدول الخليج خصوصاً، وسيلة لمواجهة إيران، واحتواء ممارساتها الخطرة والهدّامة وتوفير الأمن لأنظمتها الضعيفة والمهدّدة في أمنها واستقرارها.
لقد تحوّل الكيان الصهيوني الذي شكّل، منذ تأسيسه، قاعدة متقدّمة وقوة حراسة لمصالح الولايات المتحدة والدول الأوروبية في المشرق العربي، كان الرئيس الأميركي المنتخب، بايدن، قد صرّح أمام الكونغرس عام 1986 أنه “لو لم يكن هناك إسرائيل لكان على أميركا اختراع دولة إسرائيل لتحمي مصالحها”، والذي (الكيان) حظي بدعم أميركي وأوروبي مالي وعسكري، وبتغطية سياسية في المحافل الدولية، لحمايته من المساءلة، لعدم تنفيذه القرارات الدولية المتعلقة بالحقوق الفلسطينية، ولاعتداءاته المتواصلة على الفلسطينيين وعلى دول الجوار العربي؛ وببذل مساعٍ حثيثة لشرعنة اغتصابه أرض فلسطين، عبر عقد اتفاقات تسوية بينه وبين دول عربية، وصولاً إلى استثمار تفكّك النظام الإقليمي العربي وانهيار القوة العربية؛ في ضوء الصراعات البينية بين الدول العربية وهشاشة أنظمتها وفقدانها الشرعية الشعبية، وتنفيذ مقايضات سياسية بإقامة علاقات دبلوماسية وتعاون أمني واقتصادي مع دول عربية أخرى، لخنق السلطة الوطنية الفلسطينية، وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلة؛ والتمدّد السياسي والأمني والاقتصادي في هذه الدول وعلى حسابها، تحوّل هذا الكيان إلى قبلة دول عربية بعينها وأملها في توفير الحماية والأمن لأنظمتها من الخطر الإيراني، بتجاهل تام لطبيعة هذا الكيان، ولما فعله وسيفعله بدول المنطقة وشعوبها، في ضوء دوره الوظيفي قاعدة متقدّمة لقوى استعمارية طامعة بخيراتها.
لا يمكن فهم السياسة الإيرانية وممارساتها العنصرية والطائفية وتقبلهما، ولكن هذا لا يجعل موقف الدول العربية المعنية ومراهنتها على الولايات المتحدة، وربيبها الكيان الصهيوني، لمواجهة جمهورية إيران الإسلامية؛ وتطلّعها إلى اليوم الذي تقضيان فيه على عوامل القوة والتقدّم في الدولة والمجتمع الإيرانيين؛ مبرّراً أو مقبولاً، ولا غضّها الطرف عمّا يرتبه ذلك من نتائج جيوسياسية وجيواستراتيجية، يصبح فيها الكيان الصهيوني القوة المهيمنة في الإقليم، ودوله وشعوبها أتباع أذلاء في عالم مختل لصالحه.
تكمن مشكلة الدول العربية المعنية في حالة العجز وانعدام الوزن والفشل في الخروج من المستنقع الآسن الذي ألقت نفسها فيه، بسياستها قصيرة النظر، وتعاميها عن التحولات والتطورات الإقليمية والدولية، وانعكاسها على كيانها وشعوبها واستسلامها للتلقائية، تسوقها في مسارات مجهولة العواقب. وهذا بالإضافة إلى هدرها إمكانات البلاد ومواردها على المظاهر وشراء الذمم والولاءات، والحماية الخارجية، ووطئها كرامة المواطنين، وافتئاتها على حرياتهم وحقوقهم وتجاهلها همومهم وتطلعاتهم والاستئثار بالسلطة والثروة، ما جعلها عاجزة عن مجاراة إيران في مجالاتٍ كثيرة، علمية واقتصادية وعسكرية، على الرغم من أن مواردها تفوق موارد إيران، وأنها لو أحسنت إدارتها وتوظيفها لحققت إنجازات كثيرة، ولقلّصت الفارق معها، ولفرضت عليها الحذر في التصرّف والتعامل باحترام وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ولم تضطر إلى الهروب من “تحت الدلف لتحت المزراب”، كما يقول المثل الشعبي، باللجوء إلى الكيان الصهيوني لحمايتها من إيران، في وقتٍ يشحذ فيه سكّينه للإجهاز عليها.
المصدر: العربي الجديد