لا تعتبر كتابات كمال ديب حول سوريا كتابات عابرة، فالرجل كتب أربعة كتب حول سوريا: تاريخ سوريا المعاصر، سوريا في التاريخ من أقدم العصور حتى 2016، الحرب السورية، إضافة إلى كتاب أزمة في سوريا: انفجار الداخل وعودة الصراع الدولي 2011 ـ 2013، الصادر عن دار النهار.
وإذا كانت كتابات ديب الثلاث الأخيرة طغى عليها البعد التأريخي، فإنه في هذا الكتاب ينزع إلى تقديم قراءة تحليلية لأسباب “الأزمة” أكثر منها قراءة تأريخية، لكنه وإن يفعل ذلك، فإنه يكتب من منظار الأكاديمي البعيد الذي لم يعاين حقيقة الوضع السياسي في سوريا عن قرب، فجاءت رؤيته للأحداث في سوريا من منظار دور المصالح الدولية فيها.
يرى كمال ديب أن أسباب الأزمة السورية خارجية أكثر منها داخلية، حيث يضع أربعة أسباب خارجية وثلاثة داخلية.
يبدأ كمال ديب الكتاب بفصل تمهيدي حول الظروف الإقليمية المحيطة بسوريا منذ تسلم الأسد مقاليد الحكم، بالقول “عندما وصل بشار إلى الحكم اشتعلت في وجهه مجموعة من الإشكالات والملفات احتاجت إلى اهتمام فوري، وشملت ربيع دمشق وملفات لبنان والعراق والانتفاضة الفلسطينية الثانية، إذ لم تمض أسابيع على وفاة حافظ الأسد حتى تصاعدت نبرة عدائية لسوريا في لبنان”.
كانت لبنان الساحة الأولى التي ظهرت فيها بوادر الشؤم حول سوريا، حيث بدأت تتشكل معارضة للوجود السوري، كان عنوانها التحالف بين الحريري وجنبلاط لإنهاء الوجود السوري في لبنان، ثم جاءت أزمة التمديد للرئيس اللبناني السابق إميل لحود والتي ترافقت مع أزمة سورية فرنسية كان عنوانها صفقة الغاز، دفعت بباريس بعيدا عن دمشق، باتجاه مزيد من التقارب مع الأميركيين، وكان من نتيجة ذلك استصدار القرار الدولي 1559، قبل أن تزداد الأمور سوءا باغتيال الحريري عام 2005.
واستمرارا لعمليات “التآمر” ضد سوريا، يذهب المؤلف إلى أن التظاهرات التي بدأت في 15 آذار / مارس 2011 كانت عبارة عن مسعى دولي لإعادة سوريا لساحة للصراع، ضاربا بعرض الحائط كل المسببات الداخلية الموضوعية للاحتجاج.
ثم يذهب إلى أبعد من ذلك في تحليل المؤامرة، حين يقول إن النظام قدم تنازلات سياسية مهمة، لكنها قوبلت بمسيرات معارضة كبيرة، وإن التحول الخطير في مسار الأزمة بدأ في 6 حزيران / يونيو عام 2011، حين شن “مسلحون” هجوما على مراكز أمنية ومقار حكومية في جسر الشغور انتهت بمقتل 120 من عناصر الشرطة، لتنتشر بعد هذه الحادثة الجماعات المقاتلة المدربة والمجهزة بخطوط إمداد من تركيا ولبنان والأردن.
صراع قديم بين “البعث” و”الإخوان المسلمين”
في هذا الفصل سعى كمال ديب إلى إضفاء بعد طائفي على الثورة السورية، فيقول إذا كان ثمة عامل أساسي وراء اعتبار أزمة سوريا حربا أهلية، فهو الصراع القديم بين “البعث” والإخوان، لأنه يقلب جراحا قديمة بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية.
وفي محاولة منه لتأكيد هذه النظرية، اعتبر أن خطوط الصراع تؤكد البعد الطائفي في الصراع، فليس صدفة أن تكون المناطق الحدودية هي بؤرة الصراع، في إشارة إلى الدعم التركي والأردني واللبناني السني للثورة.
يتناسى كمال ديب هنا الحقائق التاريخية التي تؤكد أن الثورة ظلت لمدة أشهر محصورة بالعمل المدني السلمي، في وقت كان النظام يرفع من وتيرة العنف العسكري ضد الثورة.
بعد ذلك، يستعرض المؤلف تاريخ الصراع بين النظام و “الإخوان المسلمين” منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليصل إلى نتيجة مفادها، أن الإخوان لو انتصروا في ثورة 2011، لكان مصير سوريا ظهور أفغانستان طالبانية على ضفاف المتوسط، ذلك أن ثورة 2011 هي امتداد لصراع دولة “البعث” مع الجماعات الإسلامية في الثمانينيات.
ضرب التعددية الدينية والإثنية
إن دراسة الطبقات الاجتماعية في سوريا أفقيا ومصالح هذه الطبقات الاقتصادية والهيكلية السياسية للنظام وسياساته تكشف الكثير من تراكمات البعد المطلبي للشعب السوري، وفهم البعد الاجتماعي ـ الاقتصادي لا يكتمل دون دراسة الجانب العمودي للمجتمع وجذوره السابقة للاقتصاد الحديث، ذلك أن الولاءات ما قبل الحديثة تتخطى الحدود الطبقية، فتخرج ولاءات للطبقة الاجتماعية وأخرى للطائفية وثالثة للإثنية ورابعة للمناطقية وغيرها، في مجتمع يضم 16 طائفة وخمس إثنيات (عرب وأكراد وأرمن وتركمان وسريان / أشوريين وشركس).
ولكن البنية التحتية للمجتمع السوري في عهد بشار كانت ثمرة تطور تاريخي ابتدأ مع ثورة البعث 1963، حيث ظهرت طبقات اجتماعية جديدة:
ـ خروج العلويين من الغبن التاريخي وتسلـمهم مناصب عليا في الدولة.
ـ خروج فئات سنية جديدة نجحت في التجارة والقطاعات الخاصة، أما الطبقة الوسطى والبرجوازية المدينية السنية التي سبقت الثورة وحققت الاستقلال فقد زالت لتظهر طبقة وسطى سنية جديدة.
ـ خروج أبناء الأقليات العرقية والمذهبية للمشاركة في السياسة والاقتصاد.
بناء على هذه المتغيرات، بدأت الدولة تتخذ محاذير حول الإصلاح في عدم الاندفاع السريع نحو الديمقراطية والانتخابات الحرة، بل الإبقاء على الكوابح حتى لا تتحول سوريا ديمقراطيا إلى مسخ مشوه من لبنان.
ولذلك يتابع كمال ديب كانت ثمة مخاطر من أن يؤدي التغيير الطبقي / المذهبي السريع إلى أزمة وعنف، لقد أراد المؤلف في هذه الفقرة ليس تشريع إغلاق باب الإصلاح بحجة أن المجتمع غير مؤهل، بل تشريع الاستبداد في إطار أيديولوجيا دوغماتية تجمع بين مركزية غربية حداثية تخلى عنها المفكرون الغربيون أنفسهم، ووعي أيديولوجي مقلوب للواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي في سوريا.
انفجار اجتماعي داخلي وهجمة العولمة
في هذا الفصل يعود المؤلف إلى فكرة المؤامرة التي تحكم مسار كتابه، حيث يقول إن تحسن الوضع الاقتصادي الداخلي في سوريا مرتبط بموقف النظام من إسرائيل، فحتى لو قام النظام بإصلاح عميق فإن ذلك لن يفيد ما لم تتراجع عن موقفها تجاه إسرائيل.
إنه نفس الخطاب الإعلامي ـ السياسي للنظام، لكن من المفارقات الكبيرة أن المؤلف سرعان ما يؤكد أن هذه الدولة التي ربطت الإصلاح بإسرائيل قدمت تنازلات كبيرة لصالح الليبرالية الاقتصادية، والأصح لمجموعة من رجال الأعمال يبدو أن المؤلف تناسى ذكرها.
ثم يضطر المؤلف تحت ضغط الوقائع الملموسة، إلى الاعتراف بأن الدولة قامت بخطوات عشوائية من دون نموذج اقتصادي معين في البال ما جرها للانحدار، حتى إن وزير المالية أعلن في نهاية 2004 أن الاقتصاد أصبح عمليا اقتصاد سوق في كل شيء حتى لو لم نسمه كذلك، وكانت الهوة تتسع بين النظام الاقتصادي الذي أصبح هجينا ودولة الرعايا التي وعدت بها دولة “البعث”.
ويعترف المؤلف أن النمو الديمغرافي فاق النمو الاقتصادي، ما قاد إلى جمود في التسعينيات، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع البطالة والأمية، ومظاهر فقر غير مسبوقة، وإلى ضغط شديد على البنية التحتية.
وخلال مقارنته غير العلمية بين كوريا الجنوبية وسوريا في مطلع الخمسينيات وبينهما في مطلع الألفية الثانية، يصل ديب إلى أن فرق المستوى الاقتصادي بين البلدين يكمن في نقطتين:
ـ لم يكن بإمكان الدولة في سوريا أن تتوقع من القطاع الخاص والناشطين اقتصاديا أن يعملوا ما تريد وترغب، كما هي حال بعض دول آسيا.
ـ لم تمارس الدولة السورية مستويات أخلاقية في محاسبة الفاسدين، فكانت عمليات النهب لبارونات النظام منفلتة وكأن البلاد سائبة.
الأزمة جزء من الصراع مع إسرائيل
في هذا الفصل يستعرض ديب تاريخ الصراع السوري ـ الإسرائيلي، بهدف الدفاع عن رؤيته التي ترى أن إسرائيل جزء رئيسي من أزمة سوريا التي بدأت عام 2011 ضمن إطار فكرة المؤامرة الإسرائيلية الدائمة تجاه سوريا، فيعتبر أن جوهر الأزمة الراهنة في سوريا هو استهدافها كدولة المواجهة الأم للمشروع الصهيوني في المنطقة.
ووفقا للمؤلف، كان لإسرائيل يد في كل المعارك الدائرة في أنحاء سوريا منذ بدء الأزمة عام 2011، وحتى وراء الكواليس في ديباجة تصريحات المعارضة في الخارج، من دون أن يقدم المؤلف أي دليل أو حجة موضوعية لهذا الاتهام.
ولا يكتفي المؤلف بذلك، بل يقول إن إسرائيل وجهت الإعلام والفضائيات ضد النظام السوري، وقدمت الدعم اللوجستي وجندت فلسطينيين وإسرائيليين يجيدون العربية ولا يلفتون الأنظار للمشاركة في المعارك بهدف استهداف المخيمات الفلسطينية في سوريا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا