لم يحدث مرة أن رحب التونسيون بنهاية سنة مثلما يرحبون بانتهاء عام 2020. لا يعرف أحد ما يخبئه عام 2021. لكن حدس الغالبية، أو أملهم هو أن تكون السنة الجديدة أرحم من سابقتها.
على رأس قائمة التمنيات أن تنقشع غيمة سحابة كورونا تلك الجائحة غير المسبوقة بضحاياها البشرية وانعكاساتها الكارثية على اقتصاد يعاني أصلاً من الركود ومن موارد متواضعة.
منذ غابر الأزمنة قيل عن التونسيين إن نسبة هطول الأمطار عندهم تنعكس على وجوههم. فكلما نزل الغيث النافع كلما انفرجت أساريرهم. يضاف إلى ذلك اليوم نسبة دخول السياح الذين خلف غيابهم، بسبب الجائحة، وجوهاً حزينة لدى الآلاف الذين يرتبط دخلهم بالزوار الأجانب.
كل المؤشرات تظهر أن شهوراً طويلة ما زالت تفصل المجتمع المرهق نفسياً واقتصادياً عن نهاية الأزمة الصحية. ولكن اللقاحات والأدوية المكتشفة مؤخراً تجعل العودة إلى عهد ما قبل كورونا احتمالاً وارداً في السنة الجديدة، إذا ما كانت هناك إستراتيجية ناجعة لتجسيد هذا الاحتمال في أقرب وقت.
وقد يكون الأهم من ذلك أن تتوصل السلطات الصحية، ولو لاحقاً، إلى مراجعة جدية لما أظهرته الجائحة من نقاط الخلل في المنظومة الصحية العامة وإعادة الثقة في نفوس الكوادر الطبية بما يحدّ من هجرتهم إلى الخارج بنسق مثير للقلق.
لكن أزمة الثقة التي ينبغي معالجتها تتجاوز الكوادر الطبية إلى سائر القوى الفاعلة في المجتمع خصوصاً الأجيال الشابة، والتي تحتاج إلى استرجاع الأمل في أنّ هناك في تونس مجالاً لتنفيذ مشاريعها وتحقيق أحلامها الأوسع. وأنه رغم المصاعب الحالية، هناك ما يستحق التضحية.
وسواء كانت في تونس أو في المهجر، فإن هذه الكفاءات الشابة قادرة على استنباط الحلول المجددة التي تحتاجها البلاد لتحقيق انطلاقة نوعية لم يتوصل إليها التونسيون إلى الآن.
الأمل في أن تكون 2021 سنة البدء بالإصلاحات اللازمة حتى يصبح الوضع الاقتصادي والاجتماعي قادراً على الاستجابة لمطالب لم تتوقف ولن تسكن. ومن دون تلك الإصلاحات سيبقى الخوف من المستقبل مكبّلاً للعزائم.
أولى الخطوات في مسيرة الإصلاح يجب أن تكون العودة إلى العمل ومعالجة الاحتجاجات التي تعني تعليقاً للإنتاج. فما تكبدته البلاد من خسائر في قطاع الفوسفات وقبله في قطاع المحروقات لم يكن قدراً محتوماً لو كانت الفئات الهشة والمناطق الفقيرة واثقة من تصميم السلطة المركزية على الإصلاح بما يعالج المشكلات المتراكمة.
الأمل أيضاً في أن تكون 2021 هي سنة الاتفاق على رؤية واضحة وطويلة الأمد تضمن انتعاش الاقتصاد لسنوات مقبلة وتخرج البلاد من دوامة نسب النمو المتواضعة وسيطرة الاقتصاد غير المنظم وهيمنة القيود البيروقراطية المنفّرة للاستثمار، وهي عوامل مترابطة تعوّق نمو الثروة الوطنية الكفيلة وحدها بخلق مواطن الشغل وإيجاد الفرص وتمويل النفقات الاجتماعية الملحة ومحاولة ردم الهوة التنموية بين الجهات والمناطق.
وهناك ملفات متصلة أيضاً، مثل تطوير المنظومة التعليمية لمواءمة سوق العمل أو مراجعة السياسات البيئية والزراعية، وهي ملفات يجب أن تُفتح للمعالجة.
الدور المحوري في مقاربة الإصلاح ينبغي أن يكون بالضرورة للنخبة السياسية حتى وإن كان الصراع بين مكوناتها سيتواصل، وتلك تكاد تكون طبيعة الأمور في عملية انتقال ديموقراطي لم تحقق بعد توازناتها النهائية ولا النضج الكافي للتعايش بين مكوناتها. ولكن من الحيوي أن يكون هذا الصراع سياسياً وليس وجودياً، على أساس أن الساحة تتسع للجميع.
وليس واضحاً اليوم إن كان هناك حوار وطني سينتظم خلال السنة الجديدة بين الأطراف السياسية، ولكن من الضروري أن تتفق الطبقة السياسية على حد أدنى من القواسم المشتركة يخفف من حدة التوتر بينها حتى وإن كانت هناك تجاذبات متوقعة حول التعديلات الممكنة أو غير الممكنة في الدستور أو حول التنقيحات في القانون الانتخابي.
في كل حال، من الضروري أن تترك الصراعات السياسية هامشاً للسلطة كي تواجه التحديات وتؤمن الحاجيات العاجلة، وتحاول البدء في استنباط وتنفيذ الإصلاحات اللاحقة والتي طال آجال انتظارها. وإذا منحتها الظروف حداً أدنى من الاستقرار، تستطيع الحكومة، أية حكومة، أن تحقق الكثير، خصوصاً أن في إمكانها الاعتماد على خزان من الكفاءات لا ينضب والتعويل بثقة على الدرع التي وفرتها إلى الآن المؤسستان العسكرية والأمنية في التصدي لمخاطر التطرّف والإرهاب. ويمكن أن تستقطب جهودها مساهمة الطاقات الزاخرة للمجتمع المدني على كل المستويات.
الأكيد أن الحماس لمساعدة تونس في الخارج لم يعد يضاهي الحماس الذي كان يميز مواقف المجموعة الدولية في 2011. لكن هذا الدعم ما زال قابلاً للتنشيط والتفعيل، وإن كان يحتاج بحسب الكثيرين إلى إظهار رؤية سياسية مقنعة في تصور مستقبل البلاد والتدليل على قدرة تونس للاستثمار الناجع للدعم الأجنبي من أجل تنفيذ مشاريع التنمية الحقيقية. ويروى عن السناتور الأميركي الراحل ريتشارد لوغر قوله، إن ما تنجزه تونس بالمساعدة الخارجية التي تتلقاها خير برهان على فائدة هذه المساعدة.
يتطلب كل ذلك تحركاً فعلياً اليوم من أجل نشر جسور التواصل الدبلوماسية بإصرار وفعالية، برغم مشكلات المحيط الإقليمي المرتبك. ولا يزال لدى تونس العديد من الأوراق يمكن أن تستثمرها، ومن بينها عدم اصطفافها وراء الأحلاف وصدقيتها التقليدية التي يمكن أن تستغلها باحتفاظها في السنة الجديدة بمقعد في مجلس الأمن الدولي.
ليس هناك من ضمان لكل هذا أن يحدث في سنة 2021، ولكنه قد يصبح ممكناً إنْ توفرت الإرادة. وقد حان الوقت أن ينظر الجميع إلى سبل تجاوز تحديات الحاضر ويتوقفوا عن محاولة قيادة القاطرة من المرآة الخلفية أو السير بها في الاتجاه المعاكس لمصلحة البلاد. كما آن الأوان كي يتقن الفاعلون السياسيون فناً آخر غير توجيه الرسائل المحبطة. والأكيد أنهم إذا ما طوّعوا سلوكياتهم قليلاً مع الأولويات في البلاد، فسوف يَرَوْن الكثير من التونسيين يثقون بأن هناك جدوى في رصد الضوء في آخر النفق والتفاؤل بأنّ بصيصاً قد يظهر في عام 2021.
المصدر: النهار العربي