كان للأحداث التي تعيشها سوريا دور كبير في إعادة ظهور الهويات والانتماءات السابقة كالمذهبية والعرقية والعشائرية، وأبرزت الأحداث أن دور العشائر في سوريا مازال مهماً، فما حدث عزز ظهور الهويات التي تُشعر المواطن ولو بعض الشيء بالأمان، تلك الهويات ومنها العشائرية بالرغم من كل الجهود التي بُذلت لمحوها لم تنجح، وبقيت تلك الهويات موجودة، وكانت الأحداث فرصة لإعادة إحيائها، وإن كانت موجودة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وكل ما حدث هو عودتها بقوة.
لايقتصر الوجود العشائري في سوريا على مناطق شرقي الفرات، بل يمتد لحلب وإدلب وحماة وحمص وحتى درعا جنوباً، وكان للعشائر دورٌ مهمٌ في التاريخ السوري الحديث والمعاصر، حيث ساهمت العشائر في النضال ضد الفرنسيين، والرقة لا دمشق كانت عاصمة المقاومة للقوات العربية (البدوية) بين سنتي 1920-1921 في الكفاح ضد الفرنسيين، وبقيت تقريباً خارج السيطرة الفرنسية حتى عام 1922، ويمكن القول إن غالبية الثورات ضد الاحتلال الفرنسي كانت ثورات ذات طابع عشائري أو ريفي، لذلك حاولت فرنسا إغراء بعض الشيوخ بالمال والأراضي، ومن رفض تم نفيه وسجنه.
وفي فترة الاستقلال نظرت الحكومات -خاصة صاحبة الفكر القومي- إلى العشائر بوصفها كيانات متخلفة وتقليدية وتعارض التوجه القومي، وجرت محاولات لطمس دورهم أو تشويهه، خاصة من طرف الأحزاب، وحتى من طرف الأرستقراطية السياسية في المدن الكبرى، لذلك لجأت لتجريد العشائر من مصادر قوتها (الأرض والنفوذ)، فتم مصادرة قسم كبير من أراضي شيوخ العشائر بموجب قانون الإصلاح الزراعي، كذلك تم إلغاء قانون العشائر سنة 1958 -أصدره الاحتلال الفرنسي بسنة عام 1940 لمنح تلك العشائر بعض الامتيازات الانتخابية والاقتصادية، بغية كسب دعمهم واعترافهم بالانتداب الفرنسي- مما خفض نفوذ الشيوخ على أفراد عشائرهم.
وفي عهد حافظ الأسد أوكل لوزارة الداخلية تعيين بعض زعماء العشائر، فاضطر قسم منهم للهجرة لدول الخليج خاصة، وأُبعد عن الواجهة الشيوخ الحقيقيون، وأمد الشيوخ الجدد بالمال والجاه، وحتى السلاح بحجة حماية البادية (حرس البادية)، مع خطاب إعلامي ضد النظام العشائري على أنه من بقايا عصور الجهل والتخلف، فأدرك زعماء العشائر أن من يريد أن تكون له مكانة أو وجاهة يجب أن يقدم أكبر قدر ممكن من الولاء والطاعة للنظام، هكذا نأى قلة قليلة بأنفسهم عن عالم السياسة وتفرغوا لأمورهم الشخصية، وتم استبدال شيوخ جدد أكثر ولاءً للنظام ببعض الشيوخ والعائلات، وبالمقابل دخل الغالبية العظمى عالم السياسة والوجاهة بالشروط التي وضعها الأسد، وكان ممنوعًا في دولة الأسد أن يوجد رمز غير رمز الأسد سواء الأب أو الابن، ولا يجوز لأي فرد سوري أن يكون له رمز آخر سواء رمز ديني أو طائفي أو عشائري، ضمن محاولة القضاء على أي نوع من التنظيمات سواء سياسية أو عشائرية.
كان هناك صراع دائم بين القوى المسيطرة على سوريا لكسب ولاء العشائر، وهذا ما نجح به نظام الأسد من خلال تغيير الشيوخ الحقيقيين.
بشكل عام لا توجد إحصاءات دقيقة أو تقديرات لعدد العشائر، وهناك أرقام مبالغ فيها أحياناً، وكان يتم الاستعانة ببعض العارفين بالأنساب لخلق روايات وترجيح بعض التفسيرات في تاريخ العشائر وأعدادها.
وبعد اندلاع الثورة السورية عانت البنية العشائرية من انقسام كبير، وصار في كل عشيرة شيخ موالٍ للنظام وآخر للمعارضة وثالث موالٍ لقسد، وامتد الانقسام لعائلة المشيخة نفسها، مع تغييب لأبناء العشائر المثقفين أو إشراكهم باتخاذ القرار.
عمل النظام بعد بدء المظاهرات على الاستعانة ببعض شيوخ العشائر، وخاصة أن المظاهرات بدأت في درعا ذات الطابع العشائري، ثم زار الأسد الرقة، ووعد شيوخ القبائل بالدعم، كذلك قام النظام بعقد أول مؤتمر للعشائر بداية سنة 2012، وعين وزير الدفاع فهد جاسم الفريج من خلفية عشائرية.
بينما المعارضة تأخرت باستقطاب الشخصيات العشائرية، وكان التمثيل العشائري بها تمثيلي أكثر منه فاعلاً في كل المفاوضات، وعملت كذلك قسد على استقطاب العشائر وأنشأت “مجلس صلح العشائر”.
مؤتمرات عديدة تم عقدها من طرف النظام أو المعارضة أو قسد، والصراع على المؤتمرات مازال مستمراً حتى اليوم، وكانت كل المؤتمرات لتوجيه رسالة لهذا الطرف أو ذاك، ويجمع بينها أنها كلها متفقة على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وأنها مع الحل لكن من وجهة نظر الجهة المنظمة لمؤتمراتهم، باستثناء المؤتمرات التي نظمتها قسد، حيث عملت قسد على عقد عدة اجتماعات لشيوخ العشائر في منطقة شرق الفرات، في محاولة منها استقطاب العشائر العربية التي تقطن شرق الفرات، وتشكل 80 بالمئة من سكانه على الأقل، لإضفاء شرعية اجتماعية لسلطتها، وانتزاع ورقة تمثيلهم في أي مفاوضات محتملة مقبلة.
كذلك سعت بعض دول الخليج وروسيا وإيران لأن يكون لها دور مع العشائر العربية وخاصة في منطقة شرق الفرات، وتشكلت بعض الفصائل العسكرية ذات خلفية عشائرية، لم تتمكن أي جهة منها من استقطاب أبناء عشيرة كاملة، ولم يتمكن زعيم أي عشيرة من إلزام أفراد عشيرته بموقف موحد من الثورة السورية سواء معها أو ضدها، كذلك تغيير بعض شيوخ العشائر مواقفهم بين فترة وأخرى أفقدهم مكانتهم، وأساء لسمعة شيخ العشيرة.
لكن يبدو أن معظم زعماء العشائر الذين ساندوا الثورة هم من مشايخ الصف الثاني، أو وجهاء طامحين للمشيخة، أو لديهم رغبة في المنافسة على المشيخة، أو ليس لديهم تقدير لزعيم العشيرة، لأن توارث مشيخة العشيرة أدى لوصول شخصيات غير محببة أحياناً لدى أبناء عشيرتهم.
جيل الشباب خرج من عباءة العشائر، وشيوخها التقليديين، وولاء العشائر تغير مراراً وتكراراً من طرف إلى آخر، ولم تعرف العشائر موقفاً كاملاً لعشيرة إلى جانب أحد أطراف الصراع في سوريا، وإنما كانت بنسب متفاوتة تختلف حسب العشيرة، حيث انخرط كثيرون من الطبقة الوسطى العشائرية في الثورة في سبيل إسقاط النظام وكان ذلك يمكن أن يطيح ببعض شيوخ العشائر الذين عينهم النظام، بينما بقي القسم الأكبر من العائلات الكبرى من شيوخ العشائر موالية للنظام انطلاقاً من إدراكها للتهديد القائم لسلطتها أو ربما رعاية لمصالحها.
ونتيجة تحسّن الموقف العسكري والسياسي للنظام بعد 2016، عاد بعض زعماء العشائر المعارضين للنظام وعقدوا مصالحات معه، فالهدف العام لشيوخ بعض العشائر كان الوجاهة والمكانة، وهذا ما لم يجدوه لدى المعارضة حيث عانوا من التهميش بالإضافة إلى محاولة النظام لاستقطابهم إلى أملاكهم و بيوتهم.
كل المكونات السورية انقسمت حتى العائلة الواحدة انقسمت بين مؤيد ومعارض، لكن دائماً يطالب البعض العشيرة بأن يكون لها موقف واحد، وخاصة أن هناك معاداة من قبل بعض الأطراف السياسية للدور العشائري أو بشكل عام أن يكون هناك دور لغير أبناء الطبقة الارستقراطية القديمة والجديدة من أبناء المدن الكبرى.
رغم تعدد المجالس العشائرية إلا أنها مازالت مجالس صورية، فجميع اللاعبين بسوريا يريدون كسب ود العشائر، لكن في الوقت نفسه لايعولون عليها كثيراً في ظل الانقسام الحاد في صفوفها، ويريد كل طرف استغلالها لتحقيق بعض أهدافه.
تسببت الثورة بعاصفة مزقت مجتمع العشائر العربية، وفي الوقت نفسه مثلت الثورة فرصة لعشائر الأقليات كالعشائر الكردية والتركمانية والعلوية والدرزية لإعادة حضورهم في المجال العام، فإحياء الانتماءات العشائرية ربما يساهم في الحد من التشرذم الذي يعاني منها المجتمع، وربما يساهم في تعزيز الأمن في بعض المناطق، ومحاربة بعض الاتجاهات الانفصالية، فالانقسامات المناطقية والطائفية موجودة، لكن ربما تعزيز دور العشائر يساهم بشيء من الانسجام المجتمعي، حصْرُ دور العشائر في سوريا بموقف بعض شيوخها فيه ظلم كبير للعشائر وأبنائها، فكثير من القيادات الوطنية التي برزت بعد 2011 كانت ذات خلفية عشائرية، بالتأكيد من الأفضل تأسيس مشروع وطني شامل، لكن في ظل الوضع الحالي فأي شيء يحد من الانقسام هو لصالح سوريا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا