مرّ عقد، على العالم العربي، طافحٌ بالأحلام والخيبات، كانت أفراحه قصيرة، لكنها مكثّفة، طوت عار عقود مديدة من الصمت، وحطّمت، إلى الأبد، الصورة النمطية التي اعتاد الآخرون رؤية الشعوب العربية من خلالها، على الرغم من أن الربيع لم يبلغ أوانه بعد، لكنه ظلّ معلقاً أيضاً، فلا الشعوب تريد تجاوزه، ولا الأنظمة أسقطته نهائياً.
حينما اندلع الربيع العربي، أواخر عام 2010، لم يكن لدى الشعوب العربية بدائل أخرى، بل كانت كل السياقات تؤدّي إلى هذا المسار الوحيد الذي شكّل، في نظر الشعوب العربية، وخصوصا فئات الشباب، العتبة الممكنة للعبور إلى الحداثة، والفرصة الوحيدة للخروج من تحت عباءة أنظمةٍ قروسطيةٍ ألهت الحاكم إلى درجةٍ أصبح معها هو الدولة والدولة هو، فيما كانت ماري أنطوانيت تسكن قصور الحكم العربية، وكان الساسة والمستشارون يهيئون النسخ الجديدة لإدامة صيرورة الاستبداد، فما دامت الظروف ملائمة فلم لا؟
في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، وقبل هجوم الربيع العربي، كانت النخب الحاكمة في العالم العربي قد تحوّلت إلى هيئاتٍ للنهب الخالص، وراحت تستعرض رفاهيتها على الملأ، وودّعت الحذر، وانفصلت تماماً عن الشعوب التي تحكمها، اتكأت على جبروت أجهزتها الأمنية، وباتت تأنف حتى من التفكير والتخطيط لحكم هذه الشعوب. زهد معمر القذافي بالحكم، وبنوا له خيمة على مشارف الصحراء ليستمتع بمنظر النوق، فيما انصرف بشار الأسد إلى شراء السيارات الرياضية ولبس أحدث ماركات البيجامات والأحذية الرياضية، وفي مصر لم يعد حسني مبارك يجد ما يفعله، بعد سيطرة نجليه، جمال وعلاء، على مؤسسات البلد.
تولّت الأجهزة السلطانية هندسة المجتمعات العربية على شكل أنساق مرتبطة، بطريقة أو أخرى، بمنظومة فساد واسعة، جرى تصميمها بعناية، فالحصة الأكبر للحاكم وأقربائه، ثم الدائرة التي تدير هذه الحصص، وهي في الغالب من المحظيين والمقرّبين، ثم أولئك الذين يشتغلون في مؤسسات تلك العصبة، وأولئك الذين يشتغلون بالوساطة بين هؤلاء ومن هم خارج هذا التصنيف، حتى باتت المجتمعات مجموعة من الطبقات، لها وظيفة محدّدة، تنمية ثروات الفئة الأولى على حساب كل ما عداهم، وخصوصا القاع الذي بات حفرة كبيرة يطحن ساكنيه بدون رحمة. وهكذا، كان الربيع العربي صرخة ألم مدويّة من أولئك المطحونين في القاع، وصرخة الواقفين على شفير الحفرة، وهم كتل كبيرة من الطبقات المتوسطة، وصرخة الشباب ضد مستقبلٍ بدا أنه بل أفق، عدا عن كونه بلا كرامة.
لم تنهزم ثورات الربيع العربي إلا نتيجة تدخّل خارجي حاسم، فقد انهارت الأنظمة في أغلب بلدان العربي، على الرغم من شيك القمع المفتوح على كل أنماط القتل والتعذيب والاستباحة، حتى التي لم تسقط مباشرة ظلت مترنّحة، ولم ينقذها سوى تدخل خارجي استئصالي، استهدف كتلا اجتماعية وسياسية بدون مراعاةٍ لا لقوانين دولية، ولا لأعراف وقيم إنسانية.
وبدرجة معينة، ساهمت حالة عدم الخبرة في إدارة الثورات وقياداتها، والافتقاد للرؤية والأفكار، في انتصار الثورات المضادّة. ويلخّص الدبلوماسي والسياسي المصري، محمد البرادعي، هذه الحالة بالقول، “لم تكن لدينا الأدوات ولا المؤسسات”، في حين لم يكن ممكناً “القفز من ستين عاماً من الاستبداد إلى ديمقراطية كاملة”. ويوضّح “كنا نعلم ماذا فعلنا، ما لا نريده، لم يكن لدينا متّسع من الوقت لمناقشة حتى ما يجب أن يبدو عليه اليوم التالي. كنا أشبه بمن هو في حضانة أطفالٍ عليه الانتقال منها مباشرة إلى الجامعة”.
على الرغم من ذلك، ظل الربيع العربي العنوان الذي تتلهف قلوب الشعوب العربية له، بدليل أنه على الرغم من كل الألم الذي أنزلته قوى الثورة المضادّة وعملاؤها الخارجيون بثورات الموجة الأولى، إلا أن الربيع عاد وازدهر في السودان والجزائر والعراق ولبنان، وأثبتت الأحداث في أكثر من مكان أن الربيع العربي مرشّح للظهور، حتى في بلدانٍ لم يكن قد ظهر فيها سابقاً.
وما حدث أن الثورة في العالم العربي ظلت المسار الوحيد الذي من الممكن السير فيه، للخلاص من الأوضاع الكارثية التي تعيشها الشعوب العربية، والفرصة الوحيدة الباقية لفتح آفاقٍ جديدة أمام الأجيال العربية، بمعنى أن الثورة ستظل بمثابة استثمار للمستقبل العربي، وبوليصة تأمين للأجيال في مواجهة نخبٍ هدرت الثروات العربية، ودمّرت أي إمكانية للنمو والتغيير. ويشهد على ذلك أن الأوضاع العربية باتت سيئةً إلى أبعد حد، وليس لدى الثورات المضادّة وداعميها أي بديلٍ عن الفساد والاستبداد، مهمتها الأساسية قمع أي تطلّع للحرية، لتضمن بقاء هذه المجتمعات تحت قبضتها الأمنية، والأهم جعلها تشعر بتأنيب الضمير على تفكيرها بالثورة في يوم مضى.
الثورة ما زالت ممكنة، بل هي الخيار القادم في عالمنا العربي، فقد استبطنها ملايين الشباب العربي، وهم الآن يعيدون إنتاجها في عقولهم وضمائرهم، لإدراكهم أن التغيير لن يحصل لا بضربة حظ ولا بضربة واحدة. والثورة لا زالت ممكنة، لأنها لم تغادرنا بعد، وإن تمهلت قليلاً. ولعل الوصف الأدقّ للحالة الراهنة ما قالته ليلى سويف أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة ووالدة الناشط المسجون في مصر، علاء عبد الفتاح: إذا كانت “الثورة في اللحظة الحالية مهزومة، فهذا لا يعني أنها ستظل مهزومة”.
المصدر: العربي الجديد