معان ودروس كثيرة تستبطنها مسيرة الثورة السورية العظيمة طوال تسع سنوات، منذ أن انطلقت في ذلك اليوم التاريخي الأغر، الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، معبرة عن إرادة شعبنا الجماعية التي تخمرت وانصهرت في ضميره الجمعي، بقدرة الله وقدره، بلا تخطيط ولا تدبير سياسي مسبق. فانفجرت في وقت واحد بما يشبه المعجزة، كما تنفجر براكين الغضب المكتوم والمكبوت، وحمم المعاناة المتقدة في نفوس السوريين وصدورهم، بين جنبات الوطن كافة، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، لم يتخلف عنها غير شراذم الانتهازيين والخونة الذين خلقهم نظام العصابة الفاسدة به، بعد أن استأصل شعورهم الإنساني الفطري، وطمس على إحساسهم الوطني، وأعادهم إلى ثقافة العبودية الغابرة.
ومع أن الثورة السورية ظهرت في سياق ظاهرة ثورات (الربيع العربي) متأخرة عن الثورة التونسية، والليبية والمصرية واليمنية، إلا أنها الوحيدة التي تميزت عن الأخريات بالاستمرارية حتى الآن، واستعصت على محاولات إخمادها من قوى الاستكبار العالمية والاقليمية، من إيران إلى اسرائيل، ومن روسيا إلى الولايات المتحدة. لقد شقت طريقها بصعوبة، وصنعت معجزتها الفريدة رغم ضعفها المادي والعسكري والحصار المضروب عليها، وتغلبت على التحديات، وارتدت على أعدائها، واستنزفتهم بفضل صمودها، فأصبح ضعفها عامل قوة، وأصبحت قوة الآخرين سبب هزيمتهم على أرضها، وها نحن نرى اندحار الجبروت الروسي في سورية، بصورة قد تكون أبشع من اندحار الامبراطورية السوفياتية أمام فلول الجهاديين الأفغان!
وبعد تسع سنوات حافلة بالتغيرات والتقلبات المتعددة، بين الحراك السلمي، والنضال العسكري، وبين الصراع الداخلي والتدخل الخارجي، اكتسبت التجربة الثورية السورية خصائص وخصوصيات محددة، وصار لها طابع يميزها، تستوجب الدراسة والتحليل والبحث المستفيض بعناية وتفصيل، ولكننا في هذا الرأي الموجز بمناسبة ذكرى انطلاقتها التاسعة، سنكتفي بتحديد بعض الدروس والمعاني والاستنتاجات واستخلاص عناصر قوتها التي ستصنع انتصارها، ورصد احتمالاتها القادمة:
الاستنتاج الأول أن ثورة الحرية قد تجذرت، حتى باتت ثورة عصية على الإخماد، أو الاحتواء، بفضل امتلاكها قوة دفع ذاتية، تولد لها طاقة الاستمرار، والصمود في وجه أعتى القوى الدولية همجية، وأقسى الظروف الانسانية، الأمر الذي يعزز يقيننا العميق أنها لن تخمد، حتى تحقق شعبنا أهدافها التي صاغها وعي شعبنا الوطني الجمعي، وأعلنها منذ اليوم الأول.
والاستنتاج الثاني أن شعبنا رغم ضعفه الظاهري قد ألحق هزيمة فاضحة بالقوة الروسية العسكرية المتغطرسة، وبالغزو الفارسي الهمجي، لأنهما فشلا في كسر إرادته، أو ثنيه عن مطالبه الوطنية المشروعة. وها هو العالم كله يشاهد ويشهد كيف يفضل شعبنا الموت، ويختار التهجير والعيش في العراء على خيار العودة لسلطة العصابة المتوحشة، والرضوخ لإرادة المحتل الروسي، ويصمم على مواصلة القتال لانتزاع حقوقه كاملة، رافضًا الحلول والتسويات المشوهة التي يسعى لتصنيعها عبر مساري آستانا وسوتشي، أو عبر ما يسمى هيئة التفاوض العقيمة، واللجنة الدستورية العاجزة، وبقية ألاعيبه هو وحلفاؤه. إن هزيمة المحتلين والغزاة تتمثل اليوم بفشلهم في إجبار شعبنا الأعزل على العودة لسلطة العصابة، وعجزهم عن إعادة الشرعية العربية والدولية لها.
والاستنتاج الثالث هو إن الثورة السورية ككل الثورات الأصيلة، قد تشهد كرًا وفرًا، مدًا وجزرًا، صعودًا وهبوطًا، لكنها لا تنهزم أبدًا، لأن” الثورة” في معناها العميق هي قوة الإرادة والتصميم على بلوغ الأهداف الوطنية الكبرى. وهاهي ثورتنا المعجزة – تجتاز مرحلة الصمود وتعود إلى التقدم والصعود، رغم جسامة الخسائر وقساوة الظروف.
لقد تخطت الثورة السورية مراحل قاسية من المحن والفتن والمؤامرات، وتشهد الآن مع بداية العام العاشر ولادة جديدة، ومخاضًا صعبًا، لا يراه غير أهل البصيرة النفاذة متمثلًا في الصمود الأسطوري لشعبنا أمام أقسى وأقصى مستويات البطش والإجرام الهمجي. وفي بسالة المقاتلين في إدلب وريفي حماة وحلب، وفي عودة درعا القوية للثورة، وفي ثبات ثوار الجبلين التركمان والأكراد، وفي مقاومة أبطال عروس الفرات. وهذا ما يثبت أن ثورتنا مستمرة رغم الاختلال الكبير في موازين القوى الميدانية، والحصار العالمي غير المعلن عليها.
والاستنتاج الرابع يمكن استشفافه من خلال بعض التحركات الدولية التي تظهر في الكثير من المحافل العربية والدولية، بدءًا من عودة (ثورات الربيع العربي) إلى العصف بالأنظمة المتخلفة والرجعية والمستسلمة مشرقًا ومغربًا. ويمكن استشفافه في نضالات النخب السورية الوطنية في المهاجر ومراكز القرار الدولية، كمحاكمة مجرمي الحرب في أوروبا استنادًا لمبدأ الولاية القضائية العالمية، وقرارات البرلمان الأوروبي ضد النظام، وإقرار نواب الشعب الأميركي لقانون “سيزر” الذي يبشر بملاحقة جادة وحازمة لمجرمي الحروب في سورية، بما فيهم روسيا وبوتين والإيرانيين وغيرهم، وقطع الطرق على كل بادرة لإعادة التطبيع الدولي مع نظام الطغيان والإرهاب، وكل محاولة للقفز على الحل السياسي الذي أجمع عليه المجتمع الدولي، منذ وثيقة جنيف 2012، إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لعام 2015.
وأما الاستنتاج الخامس فيمكن استنتاجه من دلالات المعنى المشترك لهذه البوادر والمبادرات الدولية، وهو أن العالم تخطى في نظرته للقضية السورية الاعتبارات السياسية، وأخذ ينظر لها ويتعاطى معها كقضية إنسانية وأخلاقية من الدرجة الأولى تضغط على الضمير العالمي رغم ضموره الملحوظ. وهذا التحول يذكر بتحول النظرة العالمية لنظام جنوب أفريقيا العنصري مثلًا، كنظام غير مقبول، لا يمكن التعامل معه في هذا العصر لأسباب مجرد أخلاقية. وتحول النظرة إلى حرب فيتنام بفضل صور المدنيين والأطفال الذين تقتلهم الطائرات الأميركية، وهو التحول الذي قلب موقف الشعب الأميركي وأجبر الإدارة على وقف العدوان.
إن هذا المثال أصبح قابلًا للتكرار في القريب العاجل في سورية، بفضل صور ” القيصر” التي هربها السوري المنشق إلى واشنطن، وبفضل صور المجازر التي ارتكبها الروس والايرانيون وعصابات الأسد ضد سكان إدلب وحلب وحماة والغوطة ودرعا ودير الزور، والتي تركز على استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق ومخيمات اللاجئين والقرى الصغيرة بلا تمييز.
إن هذه التطورات التي تتزامن مع دخول ثورتنا عامها العاشر بزخم قوي ووقود هائل من الإرادة الثورية تحمل إمكانية تنظيم محاكمة دولية خاصة لمحاسبة المتورطين في جرائم الحرب، وضد الإنسانية في سورية، من الأسد إلى بوتين، ومن قادة حزب الشيطان اللبناني، وفصائل الحشد الشيعي العراقية المارقة، وصولًا إلى قادة الحرس الثوري الفارسي.
كما تحمل – وهذا هو الأهم – امكانية العمل الدولي لاستئصال نظام الارهاب في سورية، والاستجابة لمطالب الشعب السوري، ومساعدته على إجراء تغيير جذري يلبي مطالب شعبنا البطل.
وأما الاستنتاج الأخير فهو إنساني وتاريخي يتمثل في أن تضحيات شعبنا الباهظة من أجل التحرر والحرية لم ولن تضيع هدرًا، ودماء شهدائنا الأبرار لن تذهب هباء، بل ستزهر وتثمر حرية وعدالة ونهضة شاملة، بإذن الله وإرادة شعبنا العظيم.