تغليب طهران العامل الديني- المذهبي تسبب بأخطاء كثيرة في علاقتها مع المحيط
منذ استقرار الدولة الإيرانية الحديثة العام 1924 مع رضا بهلوي الملك الأول في السلالة البهلوية، برزت الحاجة إلى إعادة إنتاج هوية وطنية تكون رافعة لمشروع الدولة القومية في الهضبة الإيرانية أو ما تبقى من أراضي السلطنة القاجارية بعد خسارتها كثيراً من الأراضي التابعة لها من حدود جبال دربند المطلة على البحر الأسود مروراً بمناطق القوقاز الشمالي وآسيا الوسطى وإقليم ما وراء النهر والتي تشمل نحو 17 ولاية كانت خاضعة للحكم القاجاري.
وبعد التوحيد القسري أو الضم العسكري لولاية (خوزستان/ الاحواز) وعاصمتها مدينة المحمرة آنذاك (خرمشهر) وإبعاد حاكمها العربي الشيخ خزعل جابر الكعبي إلى الكويت، برزت الحاجة إلى تكريس الصيغة التاريخية لهوية وطنية تكون جامعة وقاسماً مشتركاً بين القوميات التي تسكن هذه الهضبة، فكان أن شكلت الجغرافيا حجر الزاوية لهذه الهوية، إضافة إلى اختيار الاسم التاريخي الذي أُطلق على جزء من هذه الهضبة كعنوان للوطن الجديد بحيث يستجيب لمتطلبات مرحلة بداية القرن العشرين التي شهدت نشوء الدول الحديثة والدولة القومية بعد انهيار الإمبراطوريتين العثمانية والقاجارية.
وبتأثير من التجربة التركية، وما قام به مصطفى كمال أتاتورك الذي شكل نموذجاً ومثالاً، حاول بهلوي المؤسس الاقتداء به وتقليده في المحطات السياسية والاجتماعية والثقافية التي اعتمدها في بناء تركيا الجديدة وتكريس القومية التركية أو الطورانية. من هنا، كان خيار رضا بهلوي “تعميم الجزء على الكل” من خلال التسمية الرسمية للحيز الجغرافي الذي قامت عليه الدولة الوارثة للسلطنة القاجارية، واعتماد اللغة الفارسية الخاصة بأبناء القومية الفارسية لغة رسمية للبلاد، ترتكز على الإرث الثقافي الجامع لهذه اللغة التي سيطرت على المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والشعرية، حتى داخل الباب العالي العثماني، حيث كانت الفارسية لغة النخبة السياسية والثقافية، فضلاً عن أن غالبية الشعراء الترك والآذريين القدماء اعتمدوا اللغة الفارسية ولم يستخدموا اللغة التركية في نظم أشعارهم.
ولم يكن بمقدور رضا بهلوي إغفال العامل الديني، الذي لم يغب عن تقديرات الحكام السابقين من الصفويين وبعدهم القاجاريين، لما له من تأثير كبير وعميق في بنية المجتمع الإيراني بمتخلف قومياته، فكان من الضروري اللجوء إلى اعتماد هوية مركبة يتداخل فيها العامل الجغرافي- إيران- والعامل اللغوي- الفارسية- والعامل الديني- المذهب الإسلامي الشيعي- وجعل ذلك “الحبل السري” الذي يربط بين القوميات المشكلة للدولة الحديثة، حتى وإن استدعى ذلك فرض اللغة بالدرجة الأولى بشكل قسري على هذه القوميات وحرمانها من حقها في لغاتها كأداة ثقافية وفكرية للتعبير عن ذاتها الخاصة، لمصلحة الفكرة الوطنية الجامعة وباستخدام العامل الديني الذي ينطلق من مبدأ “حب الوطن من الإيمان”.
ومع (الثورة الإسلامية) لم يطرأ تعديل على الهوية الإيرانية، فهي ارتكزت على المقومات الثلاثة الأساسية، “الجغرافيا واللغة، والمذهب”، وإن كان المذهب قد طغى على التعامل الخارجي في ظل النظام الجديد، في استعادة للتجربة الصفوية لكن على نصاب مختلف، إذ جاء التحول إلى التشيع في العهد الصفوي من باب تكريس التمايز عن الخصم السياسي العثماني، على الرغم من الالتقاء في المساحة “الصوفية” والقومية بين سلاطين الدولتين. وفضلاً عن كون المذهب أو التشيع يشكل العنصر الجامع لغالبية الإيرانيين، تحول إلى عامل مساعد لتحقيق الشعار الذي رفعته الثورة نحو “عالمية إسلامية” بقيادة إيرانية، بناء على القراءة الشيعية للدين الإسلامي. إلا أن العوامل الأخرى لم تخرج عن المشهد المكون لهذه الهوية، فكانت الجغرافيا والإيرانية رافدين ودافعين للتمسك بالبعد الديني المذهبي لهذه الهوية، حتى بعد تراجع التأثير الاجتماعي والشعبي للبعد الديني في التعبير عن هذه الهوية، تقريباً بعد عقدين من عمر الثورة، فإن هذا التراجع لم ينسحب على البعد القومي، أو الإيرانية التي طغت بشكل لم يعد أي من المسؤولين في النظام يجد حرجاً في تقديمها على البعد الديني نتيجة ارتفاع الشعور القومي في المجتمع على حساب البعد الديني الذي شكل أساس الخطاب السياسي للنظام الإسلامي.
ما فعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مشاركته في الاستعراض العسكري في عيد النصر الأذربيجاني في العاصمة باكو واستشهاده بأغنية شعبية تتحدث عن الحنين لدى شعوب شمال نهر آراس في القوقاز ومنهم الأذربيجانيون، لم يكن مجرد “عدم معرفة بالحساسية الإيرانية” إزاء كلمات هذه الأغنية، لكنه فتح “جرح الذاكرة الإيرانية” التي استعادت تاريخاً من الخسائر منذ بدايات القرن التاسع عشر أدت إلى تخليها عن العديد من الولايات التابعة للسلطة القاجارية في آسيا الوسطى والقوقاز لمصلحة القيصرية الروسية. وتحول خطاب أردوغان إلى تهديد يمس السيادة والجغرافيا الوطنية بما تمثله كأحد أركان الهوية الإيرانية، ورفع منسوب القلق الإيراني مما أسفرت عنه الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان من انقلاب جيوسياسي لمصلحة تركيا، والنتائج التي لم تتكشف بعد لهذا الانقلاب، وقد تذهب إلى إمكانية إعادة إحياء مشروع “تقليم الأطراف” وما يعنيه من تهديد للكيان الإيراني، لكونه سيضع النظام في مواجهة سلسلة من الاضطرابات في محافظات الأطراف التي تسكنها قوميات مختلفة تتحفز في أفضل الأحوال للتحرك والخروج ضد المركز للمطالبة بحقوقها الدستورية التي ضمنتها المادة 15 التي تتحدث عن حقوق الأقليات القومية في تعليم اللغة الأم والعدالة في التعامل بمختلف مستوياته. ما يعني وضع النظام في حالة استنزاف داخلي تضاف إلى الاستنزاف الاقتصادي والسياسي الناتجين عن الحصار الأميركي والدولي.
رد الفعل الإيراني الرسمي سواء أكان من الخارجية أو من البرلمان أو أئمة الجمعة ممثلي المرشد الأعلى في المحافظات الأربع ذات الغالبية الآذرية، وحتى من المثقفين، على كلام أردوغان يكشف حجم الحساسية الإيرانية وإنكارها النتائج السلبية للأسلوب الذي أدارت به السلطة العلاقات السياسية والثقافية بين المركز والأطراف وما فيها من معضلة التعامل مع هذه الأقليات، نتيجة الركون إلى تغليب البعد المذهبي- الديني على باقي مكونات الهوية المركبة، وإهمال عامل القوة الذي يمكن أن يعزز موقف النظام المتمثل في التراث المشترك بين هذه القوميات.
ولعل هذا الأمر-أي تغليب العامل الديني-المذهبي، إلى جانب اختلافات كثيرة أخرى، يمكن اعتماده لتفسير أسباب تراجع العلاقة بين إيران والدول العربية، وما نتج عنه من وقوع في العديد من الأخطاء، وقد كشف ذلك الضعف الإيراني في التعامل مع المتغيرات في المحيط وتأثيراتها على الداخل المركب. وينسحب ذلك على المناطق التي ذهبت إليها إيران من منطلق عقائدي استراتيجي إذ تعتبرها مجالاً للنفوذ الإقليمي، إذ قام النفوذ على قواعد ضعيفة تفتقر إلى أسس متينة وطنية وتاريخية قادرة على إنتاج إستراتيجية مثمرة، وليس آخرها حالة الضياع والإرباك التي سادت المشهد الإيراني في التعامل مع الحرب الأرمينية الأذربيجانية التي سمحت لأردوغان بأن يسترجع الحلم بإعادة بناء العثمانية الجديدة على حساب السيادة الإيرانية وامتداداتها التاريخية والجغرافية، فضلاً عن منافستها في دوائر نفوذها الإقليمي.
المصدر: اندبندنت عربية