صار معظمنا يخشى إلقاء نظرة مدققة على واقعنا، لأنه صار واقعا مخيفا يفضل كثيرون الركون إلى أنه من الصعب أن يكون واقعنا النهائي، بارتداداته بالغة السلبية علينا.
وأعتقد أن هناك إحساسا عاما بعدم الاطمئنان إلى ما ينتظرنا، نحن السوريين، في مقبلات الأيام، كمجتمع تعرّض لتدمير استهدفه خلال الحرب التي شنتها الأسدية عليه، في سياقٍ دوليٍّ مغايرٍ لأي سياقٍ آخر عشناه، على الرغم مما عشنا من كوارث في العقود القليلة الماضية، كان أخطرها الكارثة الأسدية التي دمرت دولتنا ومجتمعنا منذ عام 1970.
أتحدّث عن سياق مغاير، تكرّس خلال السنوات العشر الماضية، من خلال الحرب الأسدية على مجتمعنا ودولتنا التي تنضوي في إطار دولي تخلق واعتمد بعد الغزو الأميركي للعراق، وقبله الثورة الإسلامية في إيران، وما أسهمت الأسدية فيه من سيطرة إسرائيلية على المجال الاستراتيجي المحيط بها عربيا، إلى جانب انهيار مشروع النهوض العربي بسبب هزيمة حزيران، والدور المركزي الذي لعبه عسكر “البعث” السوري فيها، وانتهى بالقضاء على مركزها المصري، وبروز مركز أسدي بديل، تبنّى كلاميا مقولاتٍ بدا وكأنها تصف الجهد النهضوي الذي عرفه الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هدف المركز البديل لم يكن بناء نهضةٍ ما، بل اجتثاث قوى استنهاض العرب عامة، وسورية خصوصا، من جذورها، واستبدالها بكيان ما قبل دولوي، ما دون مجتمعي، يكبح دورة السياسة كفاعلية مجتمعية وعامة، لتعارُضها مع وجوده وتناقض حواملها مع بنيته وممارساته، لكونها تتخطّاه وتتنافى معه، بينما لعبت أجهزته المنظمة دورا جديرا بغزاةٍ يحتلون مجتمعا معاديا، فلا عجب أن أدّت ممارساته إلى القضاء الجسدي على المجتمع السوري، بعد القضاء على دولته، وإخضاعها لسلطته منذ عام 1970.
يغلط كثيرا من يرى الحدث السوري بغير منظار التنافي بين الأسدية ومجتمعنا، ويغلط أكثر من يضعه خارج هذا الإطار، لأنه إن فعل ذلك فقد القدرة على فهم ما وقع، وعلى بلورة بدائل للواقع الذي ترتّب عليه، ولم تعد تنفع معه وفيه الحلول الجزئية والترقيعية التي يقوم بها هذا الطرف أو ذاك، لكونها تفشل في مواجهة ما هو مطلوبٌ لوقف تدميرنا أولا، ثم للرد عليه بأكثر الطرق فاعلية، وبجهود أوسع قطاعات شعبنا، المستهدف الحقيقي من كل ما جرى بيد إيران والروس والأسدية وحزب الله، بعد ثورتنا.
هذا الواقع التدميري تحرسه اليوم دولٌ كبرى وإقليمية وزعت وطننا إلى حصصٍ كانت تريد الحصول عليها بعد الحل السياسي، لكنها حصلت عليها قبله، فلم يعد مسألة ملحّة أو مستعجلة، خصوصا بعد أن رسمت كل واحدةٍ منها خطوطا حمراء للآخرين ، تمنعهم من تخطّيها، وانضوت المعضلة السورية، وهي صراع بين شعب يطلب الحرية وسلطة ترفضها، في إطار إقليمي انتقل الصراع معه إلى شرق المتوسط وليبيا وأذربيجان العراق واليونان والاتحاد الأوروبي … إلخ، وصار من الطبيعي أن يتوقف حله على الطريقة التي ستسوّى من خلالها مشكلات هذا الانتقال، العويصة والعسيرة جدا على الحل، وتضمر مخاطر الانزلاق إلى العنف بين دولٍ مسلّحة حتى الأنياب ومفترسة، نشرت قواتها في مسرح الصراع الجديد، وتنتظر جميعها انصياع الآخرين لمطالبها، في وضعٍ متأزّم وانفجاري، يجعل التفرّغ للحل السوري ضربا من المزاح، وما يدور من اجتماعاتٍ دستورية وغير دستوريةٍ نوعا من الضحك على ذقون من يستمرئون الضحك على لحاهم، بل ويرون فيه إنجازا يفخرون به، بينما تتمسّك كل من إيران وروسيا بحصتها وبالخطوط الحمراء التي وضعتها لحمايتها من الآخرين، ويطمئن تابعهما الدمشقي لتنافسهما عليه، ولبؤس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهو يتخبّط في غيبوبته، وعجزه عن الانتقال، أخيرا، إلى وضعٍ يصير فيه من حصّة السوريين، ويضع حدّا لارتهانه لغيرهم، والذي يهدد حقوقهم، ويكتم أنفاسه.
المصدر: العربي الجديد