تعيش سورية اليوم، نظاماً ومعارضة، تأزماً حقيقياً، وصل في عمقه إلى شكل من أشكال الاستعصاء الممتنع.. وقد تجلى ذلك في الآفاق المسدودة التي تحاصر كلا منهما، فالنظام محاصَر أولاً، وقبل كل شيء، بأوهام انتصاره، وبجرائمه غير المسبوقة، إذ مهما كابر وناور، وحاول التستّر، واللعب بورقة محاربة الإرهاب، وقبل ذلك، بالمقاومة والممانعة، وتخوين مواطنيه باستهداف إسرائيل نظامه “الوطني التقدّمي”، فإن صورة جرائمه تطغى على كل تمويهٍ بمثولها أمامه، صباح مساء، يرشقها بوجهه السوريون كافة، وكذلك يفعل العالم أجمع.. وها هي ذي سورية مدمرة بالكامل، وتحتاج نحو أربعمائة مليار دولار، ناهيك بالشعب الذي يتضوّر جوعاً، فراتب الموظف الذي يمكن أن يحدّد مستوى معيشة الفرد في أدنى مستوى له منذ عام 1920، أي منذ قيام أول دولة سورية بُعيد الاستقلال عن الدولة العثمانية، لا يتجاوز، وسطياً، خمسين ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 17.5 دولاراً، وهو لا يكاد يكفي أسرة من خمسة أشخاص لخمسة أيام، مهما ضغطت على نفسها، واقتصدت في طعامها! ناهيكم عما تعانيه الأسرة السورية من فقدان أهم الشروط الضرورية لأي حياة في عصرنا، كالماء والكهرباء والدواء والتعليم..
والنظام محاصر أيضاً بما ارتكبه من جرائم قتل السوريين، ومن بينهم القتلى العسكريون الذين في أغلبيتهم ينتمون إلى الطائفة العلوية، وهؤلاء يضعون فوق الجرح ملحاً، منتظرين الفرصة السانحة للسؤال عما ربحه الوطن، أو ربحوه هم، بفقدان أبنائهم؟ والنظام محاصر باختفاء مئات ألوف السوريين المعتقلين، بعد تعذيبهم نفسياً وجسدياً حتى الموت أيضاً.. وهؤلاء قد يشكلون للنظام فضيحة سياسية وإنسانية وأخلاقية على مستوى العالم، ولا يمكن أن تمرّ بسلام. وهو، أي النظام، محاصر أخيراً بأن جزءاً كبيراً من الأراضي السورية لا يسيطر عليها، وتتجاوز مساحتها ثلث أراضي الجمهورية، يعيش عليها من السوريين ما يزيد على ستة ملايين إنسان، نزح أغلبهم من الأنحاء السورية كلها. وعلى الرغم من ذلك، النظام منهمك بالتحضير لانتخابات رئاسية تشكّل، بحد ذاتها، حصاراً شعبياً له، إذ لا بد للمواطن السوري من أن يسأل نفسه، كما في كل مرة، علامَ يمارس كذبة الانتخابات وكل الانتخابات السابقة، على الرغم من كذبتها، في كفّة، وهذه الانتخابات في كفة، فهي تأتي، والشعب عارٍ من كل شيء، وأكثر من نصفه خارج العملية الانتخابية إن هي تمّت..
المعارضة السورية متأزمة أيضا، وتحاصرها المشكلات من جهات مختلفة، أولها العزلة القاتلة التي برزت، في الفترة الأخيرة، كاشفة عن حقيقة مؤيديها من الشعب السوري، فما أن أعلن رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، نصر الحريري، تشكيل ما سمّاها “المفوضية العليا للانتخابات”، للدخول في منافسة مع النظام، حتى أثيرت حملة هجوم غير معهودة عليه، طاولت “الائتلاف” وهيئات المعارضة كافة، إذ لا أحد يعرف ما وظيفة هذه المفوضية، وما غايتها، وما الذي يدفع صاحبها إلى مثل هذا القفزة في الهواء، إلا أن يكون قد قبل بصفقةٍ، تحت الطاولة، يكون بموجبها برغياً صغيراً في حكومة الأسد، بعد أن يكون قد أعطاه شرعية ما، وأغضى عن كل جرائمه التي تسبّبت بعزلته الدولية، وقد كشف عنها مؤتمر عودة اللاجئين المنعقد في دمشق في الخامس من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، بدعم ومبادرة من الروس، ومقاطعة شاملة من العالم وهيئاته السياسية والاجتماعية، فما الأسد في عُرف العالم اليوم إلا قاتل شعبه، ومتسبّب في دمار بلاده، وبالتالي هو وعصابته مجرمون خارجون على القوانين الدولية وأعرافها.
وغنيٌّ عن القول الإشارة إلى أنَّ هذه الخطوة “الحريرية” قد أتت على أنقاض معارضةٍ بائسةٍ متعدّدة الهياكل التنظيمية، بعدما ضعف هيكلها الرئيس المنبثق عن المجلس الوطني الذي ارتضاه المحتجّون، في ظرفٍ ما، أن يكون ممثلاً عنهم، إضافة إلى الحكومتين: المؤقتة وحكومة الإنقاذ، ثمَّ الهيئة العليا للمفاوضات التي أتت في السياق ذاته.. ناهيكم بعشرات الفصائل العسكرية المرتهنة لمموّليها، وبعضها غارقٌ في الفساد، وبقتال الآخر المشابه، وبعضها الآخر موضوعٌ على قوائم الإرهاب، ولا أحد من المعارضة الرسمية يؤثر في شؤونها.. ذلك كله والمعارضة غارقة في ذواتها المريضة. وللمثال تجدر الإشارة إلى عملية استبدال فترة الرئاسة المحدّدة سابقاً بثلاثة أشهر لدى تشكيل المجلس الوطني إلى فترةٍ أبدية، فالتبادل الرئاسي الذي جرى بين رئيس الائتلاف ورئيس الهيئة العليا للمفاوضات يمثل مسخرة الانتخابات السورية التي تجري منذ خمسين عاماً، ومثلها تماماً عملية التبادل الروسي بين رئيس الدولة بوتين ورئيس وزرائه ديميتري ميدفيديف.
كلام كثير يمكن أن يقال في أمر المعارضة، أقلّه إنَّ المناطق التي تحت سيطرتها، أو محسوبة عليها، قد عادت في نمط حياتها الشامل اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً مائة عام إلى الوراء، فهي جزر منعزلة بعضها عن بعض، ولكل منها قائدٌ وموجهٌ لا يعرف أو يمارس أبسط حقوق الإنسان، فقوانين الحرب أو القتال هي التي تفرض نفسها! وكما تسود في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام عصابات ومليشيات تمارس موبقاتها كلها، فالأمر ذاته في هذا الجانب، وفي النتيجة، المعاناة لدى الشعب السوري واحدة..
لم تعد المسألة السورية فقط أمراً إنسانياً، بل هي حالٌ قد تؤدّي إلى انفجار جديد أشمل وأعمق، قد يدوم طويلاً. ومن هنا، يسرع الروس إلى حلولٍ عاجلة، تلبي مصالحهم، وما كسبوه مقابل هدر دماء السوريين.. ولكن الحقيقة التي لا يريدون فهمها أن لا حل إلا ما جاء في أطر المبادرات الأولى التي عطلها الفيتو الروسي الأول الذي تسبب بكل ما حصل في ما بعد.. إلى أن جرى التوصل إلى قرار مجلس الأمن 2254، وقال بسورية جديدة تحقق المواطنة الفعلية لأبناء شعبها، وتعيد سورية وطناً لا مزرعة لطغمةٍ ما.. تماماً كما صرخت حناجر أوائل المحتجين في بداية عام 2011.
هل تراه “المجتمع الدولي” الذي آلت إليه مفاتيح حلول المأساة السورية يلبي رغبة السوريين في حل عادلٍ يستثني القتلة أجمعين، أم أن الرهان النهائي سيكون على تحديد الموقف من إسرائيل، وخصوصا بعدما آلت سورية إلى خرابٍ على غير صعيد، وأننا نشهد، في موسم التطبيع هذا، غزلاً ناعماً بين نظام الأسد ودولة الإمارات، رائدة التطبيع والمطبعين .. أم أن الشعب السوري قادر على استعادة المبادرة، بمعجزة ما، والخروج من النفق الضيق الذي أراده له النظام وأعوانه من إيرانيين وروس أولاً، ثم المعارضة التي لم تكن مطلقاً على قدر المسؤولية الوطنية وحجمها.
المصدر: العربي الجديد