كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب حتى الآن جدار حماية للرئيس التركي رجب أردوغان ضد العقوبات التي فرضها الكونغرس بسبب قرار أنقرة شراء أسلحة من موسكو، لكن هذه العلاقة الحميمة سينتهي مفعولها في الـ20 من الشهر المقبل حينما يصل الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض بعد أن كان هدفاً قبيل انتخابه لحملة سلبية في وسائل الإعلام التركية، فما طبيعة السياسات التي يتوقع أن يتبعها “جو بايدنوبولوس” كما أطلق على نفسه خلال لقاء له مع أميركيين يونانيين، وهل ستكون خطواته المستقبلية تجاه أردوغان متطابقة لوصفه السابق له كمستبد ينبغي أن يدفع ثمن أفعاله، أم أن بايدن الرئيس ليس كبايدن المرشح الرئاسي؟
مواجهات مستمرة
على عكس الساسة الأميركيين من المحافظين والليبراليين، فإن مفهوم الحروب التي لا تنتهي لا ينطبق على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ تتواصل الاشتباكات معه بلا توقف، وعلى الرغم من كون تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلى الرغم من طموحه السابق في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يبدو أن أردوغان يستمتع بمناكفة أوروبا والغرب عموماً عبر تهديدات تتأرجح بين المقاطعة والعقوبات.
ولعل الإدارة الأميركية برئاسة بايدن قد توصلت إلى تصنيف تركيا باعتبارها أقل من حليف ومجرد شريك ينفذ مصالحه الذاتية وأجندته الخاصة في قلب علاقات معقدة وسط صراعات في القوقاز والشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط.
وبينما يستعد لتولي منصبه خلال أسابيع قليلة، قد يكتشف بايدن أن شرق البحر المتوسط على وجه الخصوص بعيد كل البعد عن الهدوء الذي يطمح أن يراه في هذه المنطقة الإستراتيجية الحيوية، ففي بحر إيجة تراقب السفن الحربية التركية واليونانية بعضها بتوتر وتحفز، بينما تواجه عملية السلام التي استمرت عقوداً من الزمن في قبرص لإعادة توحيد القبارصة الأتراك واليونانيين خطر الانهيار، بعد أن دعمت تركيا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تقسيم الجزيرة القبرصية رسمياً إلى دولتين، ولم يسفر صب الزيت على نار هذا النزاع الطويل حول الحقوق البحرية والنفطية بين قبرص وتركيا، إلا مزيداً من النيران التي اتسعت لتجذب معها شركات النفط الدولية مثل “توتال” الفرنسية و”إكسون موبيل” الأميركية، بل وجيران قبرص في شرق البحر المتوسط مثل “اليونان، ومصر، وإسرائيل”.
تغيير مرتقب
ومع تصاعد التوترات التي شهدتها منطقة شرق المتوسط خلال العام الماضي، سمحت الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترمب إلى حد كبير بتجاوز الآخرين دورها الإقليمي التقليدي كحكم ووسيط وشرطي يمسك بيده عصا غليظة يحسب الجميع حساب كلمته.
وعلى غير ما حدث من موقف حاسم عام 1996 عندما كادت تركيا واليونان تنخرطان في نزاع على جزيرتي إيميا غير المأهولتين بالسكان في شمال بحر إيجة، وأرسل الرئيس الأميركي بيل كلينتون سفناً حربية أميركية للفصل بين الجارين المتحاربين، كانت إدارة الرئيس الحالي دونالد ترمب، غير فعالة أو حاسمة في نزع فتيل الأزمة بشأن الحدود البحرية خلال الأشهر الأخيرة، وبدا دور الولايات المتحدة ضعيفاً بشكل ملفت، لكن ذلك الوضع أصبح على ما يبدو على وشك التغيير.
جو “بايدنوبولوس”
ومنذ أشهر عدة، وقبل أن تضع معركة الانتخابات الأميركية أوزارها، أطلق المرشح الديمقراطي آنذاك جو بايدن على نفسه اسم “جو بايدنوبولوس” خلال اجتماع له مع الأميركيين اليونانيين والأميركيين من أصل قبرصي يوناني، وهو ما أطرب مسامعهم وأثلج صدورهم لما يعنيه ذلك من أنه سيدعم مواقف قبرص اليونانية وكذلك اليونان ضد تركيا.
وما يطمئن البعض أن بايدن يعرف المنطقة وقادتها جيداً منذ توليه منصب نائب الرئيس عام 2009 وحتى بداية 2017 من خلال زياراته الرسمية إلى كل من “أنقرة، وأثينا، ونيقوسيا”، وهو على عكس الرئيس ترمب، لا تربطه علاقة وثيقة مع الرئيس التركي، بل على العكس تماماً، فقد أظهر بايدن في مناسبات سابقة عداءه لأردوغان والحكومة التركية الحالية، وأطلق على الرئيس التركي لقب “المستبد” الذي يجب أن يدفع ثمن أفعاله، كما قال لصحيفة “نيويورك تايمز” قبل عام.
ولا يبدو بايدن وحده في مشاعر القلق المتصاعدة في واشنطن حول تركيا في الآونة الأخيرة إذ تنتاب الجمهوريين والديمقراطيين مشاعر عدم الارتياح نفسها تجاه أنقرة.
حسابات إستراتيجية
غير أن خطاب بايدن الحازم بشأن تركيا، لم يكن كافياً لإزالة مخاوف القبارصة اليونانيين ودولة اليونان، من تغير محتمل تقتضيه متطلبات الرئاسة في البيت الأبيض وفقاً للحسابات الإستراتيجية، ذلك أن بايدن عندما يتولي منصبه في الـ20 من الشهر المقبل، قد يتعين عليه أن يوازن بين مجموعة من المصالح خلال إقلاعه في بحر مضطرب في شرق المتوسط، وقد لا يكون كبح جماح أنقرة على رأس أولوياته بينما ينغمس في إصلاح البيت الداخلي في الولايات المتحدة، وفق ما يرى بعض المراقبين، كما قد يعيد بايدن حساباته وفقاً لمقتضيات المرحلة، نظراً لموقع تركيا الإستراتيجي في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة.
ويرى بعض الباحثين ومنهم سونر كاجابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن بايدن الرئيس قد يكون مختلفاً عن بايدن حينما كان مرشحاً للرئاسة، ذلك أن موقع تركيا الإستراتيجي على حدود “سوريا، وإيران، والعراق”، وعبر البحر الأسود وروسيا، قد يدفع نحو ضمان وجود علاقات طيبة مع تركيا بما يجعل تنفيذ أي سياسة أميركية في المنطقة أيسر بكثير وأقل تكلفة.
ويرى الباحث المتخصص في الشأن التركي، أن مشاكل المنطقة تتمثل في عدد من الخلافات المترابطة بعضها البعض، وهو ما يجعل تركيا قاسماً مشتركاً فيها كلها، وهي في الوقت نفسه تتحدى ما تعتبره وضعاً إقليمياً غير عادل، بينما تشعر بأنها محاصرة في شرق البحر المتوسط، حيث تشتكي تركيا مما تعتبره توزيعاً ظالماً لمن يسيطر على المناطق البحرية المحيطة، بحجة أن الوضع الراهن لا يمنحها ما تتمتع به اليونان بمناطق بحرية واسعة، وبالتالي ترفض الاعتراف بالحدود البحرية لليونان في بحر إيجة، حيث تقع عشرات الجزر اليونانية قرب الساحل التركي، كما لا تعترف بسيطرة أثينا على المناطق البحرية في جنوب وشرق جزيرة كريت اليونانية، والتي ترى أنها تتقاطع مع مناطق بحرية تركية تدخل في إطار الصفقة التي عقدتها عام 2019 مع حكومة الوفاق الليبية في طرابلس، لكن القانون البحري الدولي لا يزال يعتبرها مناطق بحرية يونانية.
إثارة توترات
وتسببت تركيا في تصعيد التوترات قبل أسابيع عندما أرسلت سفينة استكشاف بحثاً عن النفط والغاز إلى المياه البحرية قرب جزيرة كريت، مما أدى إلى إرسال سفن حربية يونانية وتركية إلى المنطقة، كما دفعت فرنسا أيضاً سفناً حربية لدعم اليونان حليفة الاتحاد الأوروبي.
قبرص في الواجهة
في الوقت نفسه، تجدد الخلاف بين تركيا والقبارصة اليونانيين بشدة على الحدود البحرية والجوية، وهو خلاف تولد منذ الغزو التركي لقبرص عام 1974، والذي قسم الجزيرة إلى شمال يسيطر عليه القبارصة الأتراك، وجنوب يسيطر عليه القبارصة اليونانيون، وأصبحت هذه قضية أكثر إثارة للانقسام بعد عام 2012، عندما اكتشف الغاز الطبيعي في المياه التي تطالب بها قبرص، وتزعم تركيا الآن أنها من نصيبها.
كما أصابت الخلافات بشأن كيفية التعامل مع ثروة الغاز والنفط المحتملة في المنطقة محادثات توحيد شطري قبرص التي ترعاها الأمم المتحدة، إذ انهارت هذه المحادثات عام 2017، وبدأت تركيا بعدها مباشرة في إرسال سفن أبحاث للتنقيب عن الطاقة في المياه المشتركة مع قبرص، ولا تزال هذه السفن موجودة حتى اليوم، مما جعل قبرص، بدعم من اليونان وفرنسا، تحتج على وجودها ودعت الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، من المنتظر أن يبحثها الاتحاد الأوروبي هذا الشهر.
مهمة صعبة
وعلى الرغم من التوقعات المتفائلة بأن إدارة بايدن ستجلب نشاطاً جديداً ومشاركة أميركية فاعلة تكسر حالة الجمود في المنطقة، فإن معالجة هذه القضايا المترابطة قد لا تكون مهمة سهلة، إذ سيعقد الأمر وصول رئيس وزراء جديد حليف لأردوغان إلى الحكم بعد الانتخابات التي أجريت قبل أسابيع في الشطر الشمالي من قبرص الذي لا تعترف به سوى تركيا، ويؤيد رئيس الوزراء الجديد الموقف التركي الداعم لحل الدولتين في قبرص، ما سوف يؤدي إلى تقسيم الجزيرة بشكل دائم بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، الذين تم فصلهم عبر منطقة عازلة تخضع لدوريات الأمم المتحدة منذ عام 1974.
ويتعارض موقف تركيا مع المفاوضات التي استمرت على مدى خمسة عقود تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة لإعادة توحيد الجزيرة ولكن من دون جدوى. ولا يزال هذا الهدف يلقى دعماً من القبارصة اليونانيين واليونان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشكل أوسع، لكن تركيا تزعم أنه بعد خمسة عقود من المفاوضات الفاشلة، أصبحت إعادة توحيد شطري الجزيرة مضيعة للوقت ومن ثم ينبغي تقسيم الجزيرة.
مواجهة أردوغان
ويثير هذا الموقف الذي لا يلقى قبولاً خارج تركيا وشمال قبرص، احتمال انهيار دائم في مفاوضات الأمم المتحدة، بل إن وزير الخارجية القبرصي نيكوس كريستودوليدس لم يخف قلقه من أن موقف أنقرة قد يؤدي إلى ضم تركيا لشمال قبرص في نهاية المطاف، ولهذا يرى البعض أنه يتعين على بايدن أن يقرر ما إذا كان يريد تحقيق تسوية شاملة لمشكلة قبرص، أو معالجة قضية التنقيب البحري التركي بشكل منفصل.
وفي بحر إيجة، سوف يتعين على بايدن العمل على وقف التصعيد التركي في المناطق المتنازع عليها بين اليونان وتركيا، ولأنه لا يتمتع بعلاقة شخصية مع أردوغان، من المرجح أن يعمل الرئيس الأميركي الجديد مع المنظمات المتعددة الأطراف كالاتحاد الأوروبي نظراً لعضوية قبرص واليونان به، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) للضغط من أجل إحداث التغيير المطلوب، بالنظر إلى أن بايدن سوف يعطي وزناً أكبر من ترمب للدور الذي يمكن أن تضطلع به التحالفات والمؤسسات الدولية ولا سيما الاتحاد الأوروبي الذي تدخل منطقة شرق المتوسط في نطاقه الجغرافي.
موجة اضطرابات
وتتوقع مجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن تعيد تركيا ضبط سياستها الخارجية لمراعاة التغيير في البيت الأبيض، ما يعني أنه ستكون هناك حاجة إلى حوار صعب، ولكن أكثر انفتاحاً بين الولايات المتحدة وتركيا حول مجموعة من القضايا التي تشمل الحرب في سوريا وشراء تركيا صواريخ “إس 400” الروسية، وتهديد واشنطن بفرض عقوبات أميركية رداً على الاختبارات الأخيرة لتلك الصواريخ.
ونظراً للتعقيدات والخلافات في غالبية هذه القضايا واتفاق الديمقراطيين والجمهوريين بشأنها، يتوقع مراقبون أن تمر العلاقات الأميركية التركية بموجة من الاضطرابات في المستقبل، وعلى وقع هذا الاضطراب، قد يجد بايدن نفسه وسط مياه متلاطمة في شرق البحر المتوسط تقتضي منه أساليب أكثر حزماً في مواجهة التعنت التركي.
المصدر: اندبندنت عربية