انقض حافظ الأسد على رفاق دربه ومجموعته العسكرية والسياسية صباح يوم 16 تشرين ثاني / نوفمبر 1970، ليخطف السلطة والوطن، ويزج بزملائه في سجون القمع والإرهاب، متعهدًا بأنهم لن يخرجوا إلا إلى المقابر.
لقد تمكن الضابط الطائفي (البعثي) من الإيقاع بمن كان يختلف معهم في الرؤيا، ومن وجد فيهم حاجزًا مزعجًا يحول بينه وبين امتلاكه السلطة كل السلطة، والوطن السوري كل الوطن. وبدأ مشواره القمعي الأمني عبر ممارسات عصابة الدولة الأمنية، ملغيًا السياسة من المجتمع، فاتحًا الباب للمقربين منه وأتباعه، ليُمسكوا بمفاصل السلطة والدولة، الأمن والاقتصاد والسياسة المعلَّبة التابعة. وكان قادرًا عبر التخويف وثقافة الخوف أن يكم الأفواه، ويدخل كل من حاول معارضته في غياهب السجون. علاوة على محاولاته تأطير من يمكن له أن يكون مؤطرًا، ضمن تشكيلات حزبية ضيقة ونفعية، بناها على أنقاض إلغاء السياسة من المجتمع برمته، فأقام ما سمي ( الجبهة الوطنية التقدمية ) وفرض دستورًا سوريًا على قده ومقاسه، جعل فيه ومنه المادة الثامنة سيئة الذكر التي تقول بأن حزب البعث فقط هو من يقود الدولة والمجتمع، منهيًا بذلك فكرة الجبهة (الشكلانية) الكاذبة، وهو ما أدى إلى خروج الجسم الأساسي فيها من هذه (التكوينة الجبهوية) وهو حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كانت تقوده الشخصية الوطنية المعروفة وهو الدكتور جمال الأتاسي.
في محاولة دراماتيكية من أجل تبييض صفحته السوداء، وهو الذي باع الجولان والقنيطرة عام 1067، أراد حافظ الأسد إنجاز بروباغاندا إعلامية شعبية، عبر التوافق مع الرئيس المصري أنور السادات من خلال حرب 6 تشرين أول/أكتوبر عام 1973، والتي كانت حربًا تحريكية وليست تحريرية كما ادعى، وهو ما أدخله من جديد باتفاق فض الاشتباك عام 1974 الذي أدى إلى أن يصبح وعلى طول الحدود السورية حاميًا لأمن إسرائيل، ومتابعة دوره الوظيفي، في المنطقة برمتها، عبر عمل مشبوه في لجم الثورة الفلسطينية، والدخول عام 1975 في حرب أهلية لبنانية أدت إلى دمار لبنان برمته، وساهمت في تفسخ الواقع اللبناني والفلسطيني أكثر وأكثر.
لم تنجز حرب 6 تشرين أول/أكتوبر1073 سوى إعادة تأهيل النظام إقليميًا ودوليًا، وهو ما مكنه من تصفية معارضيه، والهيمنة على كل مقدرات الوطن السوري، ونهب خيراته، والتمظهر على بأنه حامي الحمى، وبطل الصمود والتصدي.
أنجز نظام (الحركة التصحيحية) ما عجزت عنه الأنظمة البعثية التي سبقته، من تجيير كل المجتمع لمصالحه الشخصية والطائفية الاستبدادية، وتمكن من تسويق ما لديه من أفكار ورؤى، بعد أن تمكن بين أعوام 1979 و1982 وبذريعة القضاء على التطرف والاخوان المسلمين، من تدمير المدن وأولها مدينة حماة، وغصت سجونه بالمعتقلين، وأدخل كل القوى السياسية المختلفة معه إلى المعتقلات، بذريعة التحالف مع الاخوان المسلمين، حتى لو كانت من أيديولوجيا ماركسية، أو من ديانة مسيحية.
صحيح أن محاولات كثيرة جرت في سورية من أجل لملمة عرى المعارضة المنهكة جراء القمع الأسدي، فأقامت (التجمع الوطني الديمقراطي)، الذي ضم بين ظهرانيه ما يزيد عن خمسة أحزاب وطنية ديمقراطية، إلا أن النظام / العصابة كان لهم بالمرصاد والملاحقة والقمع، والزج بالسجون والمتابعة اليومية. حتى بات للجدران آذان كما يقال، وأضحى المشتغل بالسياسة كما المشتغل بالمخدرات، بل أكثر خطورة وأدهى بنظر هذا النظام وأمر من ذلك.
تمكن النظام من القضاء على الصراعات الداخلية التي جرت بين أركان نظامه ممثلة بأخيه رفعت الأسد، وعلي حيدر وعلي دوبا وآخرين، من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى تسفير رفعت الأسد إلى فرنسا حفاظًا على النظام الأسدي من الانهيار الذي بات (في حينها) قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
المجتمع السوري الصامت وهو صمت الرافضين، راح يترقب كل ذلك وعينه على الوطن المنهوب والمسروق من آل الأسد، لكن الأسلوب القمعي الأمني الممارس ألجم الناس عن أي حراك جدي وقادر، وصولًا إلى رحيل حافظ الأسد في 10 حزيران/يونيو عام 2000، حيث توقع بعض الناس خيرًا برحيل الطاغية، وبالرغم من الحالة البشعة من التوريث لابنه بشار الأسد التي جاءت خلال ساعات، إلا أن ما سمي بربيع دمشق الذي جاء بعدها جعل المعارضة في محاولات مستمرة لكسر حاجز الخوف والخروج من عنق الزجاجة، وسرعان ما خابت الآمال بعد أن تعجل نظام الدولة الأمنية العميقة، بالقضاء على آمال ربيع دمشق، بإلغاء منتديات سياسية معارضة أمل بها الناس خيرًا.
بقي أُوار الثورة يعتمل بين الجوانح، حتى انطلقت ثورة الحرية والكرامة أواسط آذار/ مارس 2011، وكانت الهبة الشعبية التي زلزلت نظام الاستبداد بكليته، وهو ما أدى إلى إسراع الدولة الفارسية الإيرانية دولة الملالي لنصرة النظام المنهار، ولحق بها كل من هب ودب من ميليشيات طائفية، جاءت لإعادة قيامة النظام الأسدي الآيل للسقوط، ولحق بهم بالضرورة الرئيس الروسي بوتين الذي أراد تحقيق مصالحه على حساب دماء السوريين.
لقد كشفت ثورة الشعب السوري العظيمة، حجم الدور الوظيفي لهذا النظام المجرم، ومكانته لدى حلفائه من حكم دولة الفقيه، وأيضًا الدولة الروسية، وفضحت هذه الثورة كل المتلطين خلف شعارات الممانعة والمقاومة، وأظهرت زيف كل القوى السياسية الوطنية والإقليمية، التي انحازت إلى جانب الطغاة، واستباحت وهدرت دم الشعب السوري، ودمرت عمارته المدنية، وأجهزت ومازالت على جل الحالة الوطنية السورية، بالتحالف مع آل الأسد الذين يُتمون اليوم عامهم الخمسين في خطف ونهب وسرقة سورية الوطن والمجتمع، والثروات والمستقبل كذلك.
المصدر: اشراق