المحلل النفسي ل”جاك لاكان” والزميل الذي حمل الإرث
يُسميه بعضهم ب (جاك لاكان العرب) مع شيء من عدم الجرأة لموازاته ب”لاكان” نفسه، كونه تحوّل معه من دارس ومتعلم إلى زميل وصديق، فكان الند له، وهو من قام بتحليله نفسياً ، ولم يتوانَ – كأي عالم – عن نقد مشروع أستاذه وزميله “لاكان”، وقد بقي حاملاً الإرث اللاكاني بعد وفاة صاحبه، وأسس لنفسه خطاً ونهجاً علمياً، كرسا له مكانة عالمية ليصبح أحد أهم أعمدة التحليل النفسي المعاصر في العالم.
في حين يُعرف كأهم محلل نفسي عربي، أو فرنسي من أصول عربية، فإن الكثير من دراسته وبحوثه في مجال اللغويات والعلوم الاجتماعية لم تلقَ بالاً إلا مؤخراً، وبينما توجد العشرات من مؤسسات الترجمة الرسمية العربية وغير الرسمية منها، وتُرجمت العديد أعمال الآباء المؤسسين لمختلف العلوم والمعارف، لم تُترجم غالبية أعمال” صفوان” المهمة والمفصلية في علم يُفترض أنه ما زال يحبو في غالبية البلاد العربية، وغاب عن أهم جامعاتها حتى العقود الأخير من القرن العشرين، وهو نفسه المترجم الفذ الذي ترجم كتاب ( تفسير الأحلام) لفرويد، و(مقال في العبودية المختارة ) ..وغيرها، ولم يرغب بترجمة أعماله بنفسه، وعن هذا يقول في أحد حواراته عندما سُئل عن تواصل المؤسسات العربية معه:
(هيدغر غير مترجم إلا في شذرات منه، غونتر غراس من الأدباء لم يترجم له سوى أعمال قليلة .. وغيرهما.. فلماذا يُترجم مصطفى صفوان بالذات؟ لا .. لم يتصل أحد بهذا الشأن ولا أستطيع أن أجري وراء أحد كي يترجمني. لكن كان هناك كلام لترجمة كتابين لي من خلال المشروع القومي للترجمة في القاهرة، وهما دراسات عن (لاكان) والآخر (عشر محاضرات في التحليل النفسي)، وأما عن ترجمته هو نفسه لأعماله قال: (هذا أشنع شيء، فكما قلت لا أحب قراءتها فما بالك بترجمتها !).
رحيل مصطفى صفوان وخساراتنا الفادحة
عن عمر يُناهز ال99 عاماً (1921-2020م) رحل أول أمس/ 8 نوفمبر “مصطفى صفوان” عن عالمنا في باريس التي اتخذها وطناً بديلاً لوطنه الأصلي “مصر”، الذي كان يتردد لزيارته دائماً، تاركاً عدداً كبيراً من المؤلفات في التحليل النفسي والعلوم الاجتماعية، وعلم الاجتماع السياسي والدراسات الثقافية، وعدد لا حصر له من المقالات العلمية باللغتين الانكليزية والفرنسية.
العديد من التساؤلات تطرق رأس المرء، عندما يسمع خبر الرحيل هذا، فكيف لمثل هذا الرجل ألا يكون حاضراَ في الحياة العلمية والثقافية العربية؟
كيف لا يكون مصطفى صفوان أستاذاً زائراً على كل الجامعات العربية، يُنظم له برنامج علمي، يلتقي من خلاله بطلاب ودارسي العلوم النفسية والاجتماعية؟
كيف لا يوجد كرسي أستاذية واحد، في أي جامعة عربية باسم الرجل هذا؟
لماذا غابت مؤلفاته وبحوثه، ودراساته، ومقالاته عن الجامعات العربية بفروعها الاجتماعية والنفسية، ومراكز البحوث والمؤسسات الثقافية التابعة لها؟
لماذا لم يخطر ببال أي من المحطات الفضائية العربية، أن تفتح حوارا مفتوحاً أسبوعياً أو شهرياً مع مصطفى صفوان، على غرار ما قامت به بي بي سي البريطانية مع الراحل “ادوارد سعيد”، ونحن نعيش ضمن ظروف قاهرة ومأساوية تمر بها البلاد العربية، وهو الباحث القدير الذي كتب الكثير عن مأزق العرب اليوم؟
ألم تستطع أي جمعية من جمعيات العلوم النفسية العربية من ترجمة جميع أعماله، وتعميمها على أعضائها، ودعوته للقائهم والاستفادة من علومه ومعارفه؟
لماذا لم يستطع الأخضائيون العرب تأسيس ولو جمعية واحدة للتحليل النفسي يترأسها مصطفى صفوان، وتكون صلة الوصل بين معارفه وعلومه، وبين الدراسين والمهتمين بهذا العلم من الأجيال العربية؟
في كل جواب على أي من الأسئلة السابقة، تتكشّف شيئاً وشيئاً حجم خساراتنا، العلمية والمعرفية والأدبية والإنسانية برحيل هذا الرجل، دون الاستفادة بشكل حقيقي من كل منجزه الضخم، فإذا ما الفرق؟
رحل مصطفى صفوان وخسرناه خلال حياته، فهل علينا الاستمرار بخسارته بعد موته؟
من هو مصطفى صفوان ؟
ولد في الثامن عشر من شهر مارس 1921م، تخرج في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية حالياً) في الدفعة الأولى عام 1943م، درس الفلسفة وعلم النفس، وكان من بين أساتذته الذين أثروا في مسيرته العلمية أستاذ علم النفس مصطفى زيور، وأبو العلا عفيفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف، فقد وجهه الأول إلى قراءة فرويد، وكان بمثابة الأب الروحي له، وكتب له مقدمة ترجمته لكتاب فرويد ( تفسير الأحلام)، ولفت الثاني نظره إلى قضية اللغة والمجاز التي ظلت أساسية في تفكيره طوال حياته، وكانت أحد المحاور الأساسية لاحقاً في دراساته التحليلية النفسية، وفي اشتغاله عليها مع “لاكان”، وفي أواخر الأربعينيات سافر إلى باريس لاستكمال دراساته العليا، وارتبط آنذاك ب”جاك لاكان”، وبعد عودته وعمله في الجامعة المصرية، تعرض لموقف قد يبدو بسيطاً جداً مع حرس الجامعة، لكنه كان وراء اتخاذ قرار الهجرة.
كان مصطفى صفوان أحد أبرز أقطاب مدرسة “لاكان” في التحليل النفسي، وذهب مذهبه في اهتمامه باللغة على مستوى التمييز بين الرمزي والمتخيل، الخطاب وحوامله، وانحاز إلى “لاكان” خلال أزمته مع الاتحاد الدولي للتحليل النفسي، وبقي معه في الجمعية التي أسسها حتى وفاته، واستلام صهر “لاكان” للجمعية، بخط ونهج مختلف فانفصل عنها ليؤسس جمعيته الخاصة، وكان صفوان قد انتقد “لاكان” لوقوعه في المأسسة على طريقة فرويد، وبقي له نهجه الخاص المؤثر، والذي أوجد له آلاف من المريدين والدارسين عبر العالم.
لم ينفصل “صفوان” عن قضايا العالم العربي، وكان له رؤيته الخاصة للأدب العربي، واللغة العربية، وقدّم تحليلاً علميا نفسياً- اجتماعياً لأسباب تأخّر العرب، وله مساهمات مهمة في هذا المجال، أبرزها يتلخص في كتابيه ( لماذا العرب ليسوا أحراراً، نحو عالم عربي مختلف)، ومن مؤلفاه أيضاً: ( أربعة دروس في التحليل النفسي، حضارة ما بعد الأدويبية، الكلام أو الموت …اللغة بما هي نظام اجتماعي: دراسة تحليلية نفسية، الكتابة والسلطة..وغيرها)….والعديد من المؤلفات غير المترجمة للعربية، ومن الممكن لاحقاً التعريف أكثر بهذه المؤلفات، والحديث عن منجزه العلمي في مجال التحيل النفسي، وعلاقته ب”جاك لاكان”، لأنها أمر محوري وأساسي، لا يتسع المجال له هنا.
كتبت الناقدة الفرنسية “إليزابت رودينسكو” مقالاً عن “صفوان” في جريدة “لوموند” بينت أهميته العالمية، ومما جاء فيه:(على المستوى العيادي “الأكلينيكي”، قاد احتكام مصطفى صفوان المستقيم، إلى نقد التحولات التي طرأت على الأسرة، وبخاصة الزواج المثلي، وأعمال الإنجاب المعتمدة طبياً، ولم يكن يتردد في التأكيد أن التحليل النفسي في المجتمع الغربي، يزمع على الاختفاء، وكذلك العقدة الأوديبية التي جعل منها مرتكزاً غير قابل للعزل، في الفكر الفرويدي، وكان في نهاية حياته، متشائماً ومشبعا بالمرارة … كان يخشى انحطاط المنظومة العائلية، وإلغاء الرغبة الجنسية لمصلحة المقاربة الجنسية الصرفة للجنس الإنساني، ويبقى أن صفوان في تعليمه ورهافته التي تند عنه، وبموقفه الصارم جداً من الأصولية الإسلامية، تمكّن من إحاطة نفسه بهالة فريدة في عالم التحليل النفسي العالمي).
المصدر : KMARABIAN