ظهرت الميليشيات في الساحة العراقية بشكل تدريجي في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت بدايتها في مرحلة الحرب العراقية – الإيرانية، وبالتحديد بعد تأسيس (فيلق بدر) على الأراضي الإيرانية في العام 1982 بزعامة وإشراف محمد باقر الحكيم (قتل في العام 2003 بتفجير كبير في النجف) ليكون قوة عسكرية لما يسمى المعارضة العراقية الموجودة في ايران، وليتولى تنفيذ العديد من المهام وفي مقدمتها القتال إلى جانب الجيش الإيراني ضد الجيش العراقي، وكذلك تنفيذ الاغتيالات داخل الأراضي العراقية لكبار المسؤولين العسكريين والمدنيين العراقيين!
وبعد كارثة الاحتلال الأميركي في العام 2003، بدأت تبرز (بهدوء) الأجنحة العسكرية لغالبية القوى السياسية الشيعية، على اعتبار أنهم من (المجاهدين) ضد النظام العراقي السابق، ولهذا رأينا تواجد تلك القوى في بداية الأمر بشكل (خجول)، وكانت مهمتها الرئيسة تصفية كل المعارضين لها من العراقيين، وبالذات العسكريين منهم!
وبعد تفجير المرقدين في سامراء في شباط/ فبراير 2006 ظهرت تلك الميليشيات بشكل شبه علني، وارتكبت مئات الجرائم بحق الأبرياء في مناطق محددة!
ولم يكن لتلك الميليشيات، حينها، أي دور يذكر خارج الأراضي العراقية، وبعد الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد في الربع الأول من العام 2011، وتناميها وتخوف إيران من ذهاب حليف مهم لها في المنطقة، لذلك وجدنا، وبعد عدة أشهر فقط من الثورة، أن الحرس الثوري الإيراني دخل في المعادلة السورية عسكرياً عبر أذرعه الداخلية والخارجية لمواجهة الشعب السوري وتضميد جراحات النظام!
ومن يومها صرنا نسمع بميليشيات عراقية تقاتل مع النظام ضد السوريين!
الظهور الأول كان لميليشيا أبو الفضل العباس في دمشق، وغالبيتهم من العراقيين (الشيعة) المستقرين في دمشق!
ووفقاً للخبير المستقل المعني بعمليات (لواء أبو فضل العباس) فيليب سميث فقد “بدأ المتطوعون الشيعة العراقيون الوصول إلى سوريا بدءً من ربيع 2012 فصاعداً، وأصبح وجودهم أكثر وضوحاً بشكل تدريجي. وأن عدد المقاتلين الشيعة العراقيين في سوريا يتراوح بين 800 و2000 مقاتل. وينتمي هؤلاء المقاتلون بشكل يكاد يكون حصرياً إلى ثلاث مجموعات عراقية. والمساهم الرئيسي في اللواء هي مجموعة (عصائب أهل الحق) التي يتراوح قوامها بين 2000 و3000 مقاتل. والمساهم الثاني هو (كتائب حزب الله) العراقي، وهم نخبة قوامها 400 رجل من المقاتلين الشيعة العراقيين المتمرسين يقدمون تقاريرهم مباشرة إلى قيادة (قوة القدس) التابعة لـ (الحرس الثوري). أما المساهم الثالث فهو (كتائب سيد الشهداء)، وهي قوة قوامها 200 رجل يقودها أبو مصطفى الشيباني، وهو شيعي عراقي عمل تحت قيادة (قوة القدس) منذ أواخر الثمانينيات. وتشير التقارير أيضاً إلى وجود شيعة عراقيين من (منظمة بدر) و(لواء اليوم الموعود) التابع لمقتدى الصدر. وبغض النظر عن تكوينه الدقيق، يبدو أن (لواء أبو فضل العباس) قد استوعب نسبة كبيرة من الكوادر القتالية المتشددة المدعومة من إيران”!
ورغم وعود الحكومة العراقية منذ العام 2013 بسعيها لضبط الحدود العراقية السورية لمنع تدفق المقاتلين الشيعة إلى سوريا إلا أن غالبية تلك الميليشيات استمرت بالتواجد في الشام حتى الساعة!
ويمكننا هنا الإشارة سريعاً إلى أهم بقية الفصائل الشيعية العراقية
الموجودة في سوريا، ومنها: سرايا عاشوراء، ولواء الإمام الحسين، وكتائب سيد الشهداء، وحركة حزب الله النجباء، وفيلق الوعد الصادق، وسرايا طلائع الخرساني، وغيرها من الفصائل التي ربما تتجاوز العشرين تشكيلاً، والتي تتباين من حيث القوة والتأثير وأعداد القوات الموجودة في الميدان!
وقد أثبتت التقارير المحلية والدولية أن الميليشيات العراقية في سوريا نفذت جملة من المجازر البشعة بحق مئات الأبرياء، وكما يقال أصبحت هذه المجازر من الأمور الشائعة، وبالذات في ضواحي العاصمة السورية، دمشق!
المتابع للساحة العراقية حالياً يجد أن هنالك العديد من المتغيرات، وأن الكثير من قواعد اللعب بالنسبة للميليشيات قد تغيرت، ومنها تنامي الغضب الشعبي العراقي ضد الأوضاع السيئة في عموم البلاد، وبداية ضياع (هيبة) العملية السياسية والميليشيات في العراق، وبالذات بعد مقتل قاسم سليماني بداية العام الحالي بطائرة مسيرة ببغداد!
أتصور أن التطور الأكبر يتمثل بمظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 العراقية التي خلطت أوراق الميليشيات والقوى الحاكمة في البلاد، ولهذا يمكننا طرح السؤال الأبرز:
هل الوضع الحالي في العراق سيسمح ببقاء تلك الميليشيات خارج الحدود، أم أن التطورات الميدانية تدفع باتجاه عودتها للعراق للحفاظ على (المكتسبات) التي حققتها القوى المالكة والمغذية لتلك الميليشيات؟
أتصور أن الواقع السياسي والأمني العراقي الحالي سيفرض على القيادات السياسية والعسكرية جملة من الخطوات وذلك للظروف الآتية:
التهديدات الأميركية المستمرة للميليشيات، وبالذات تلك التي تستهدف التمثيل الدبلوماسي الأميركي والغربي، وربما ستجبر حكومة مصطفى الكاظمي للضغط على قادة الميليشيات لترتيب عودتها للعراق في أقرب وقت.
وضوح تزعزع الدور الإيراني في العراق سيكون ضمن عوامل القوة لحكومة الكاظمي في مطالبها بعودة تلك الميليشيات، وبالذات بعد اغتيال سليماني.
سعي حكومة بغداد لتقنين صرفيات الحشد الشعبي، وبالأخص مع الأزمة المالية الشديدة التي يشهدها العراق!
الظروف السابقة، ربما، ستكون بداية لتنسيق مستقبلي بين زعماء تلك الميليشيات العراقية والجانب الإيراني للحفاظ على (مكاسبهم) التي جنوها في العراق بعد العام 2003، ولو على حساب التضحية (المؤقتة) بنظام بشار الأسد، وهذه التفاهمات المتوقعة ستقود إلى:
سحب الميليشيات العراقية الموجودة في سوريا تدريجياً، ربما خلال الربع الأول من العام القادم.
انتشار تلك الميليشيات في مدن الجنوب لـ(خنق) المظاهرات المستمرة هناك منذ أكثر من عام.
دخول تلك الميليشيات على خط الضغط للمشاركة في الانتخابات العراقية المترقبة منتصف العام 2021.
هذه الأسباب وغيرها ستدفع جميع الأطراف العراقية والإيرانية، وربما السورية، للقبول بالواقع، والسماح بعودة الميليشيات العراقية إلى مدن الجنوب، وحينها ستكون الثورة السورية قد تخلصت من محور مهم وداعم للنظام، وهذا التطور يعدّ من عوامل نجاح الإرادة الوطنية السورية ضد القوى الكارهة للشعب ولثورته المطالبة بالحرية والكرامة!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا