شارك العرب في العملية الانتخابية التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية بفاعلية كبيرة، عبر وسائل إعلامهم، وأقلام كتابهم. وموّلوا، بطريقة أو بأخرى، الطرفين، في مواجهة تؤكد انقسام الرؤية العربية حول الدور الأميركي في المنطقة العربية. تمسّك تحالف عربي – خليجي بالرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، ووجدوا به منقذا لسياساتهم في دولهم، في مقابل ما يقدّمونه من خدمات اقتصادية وسياسية وماليه له، من دون النظر إلى عمق سياساته غير القانونية والأخلاقية في تعاطيه مع ملفات كثيرة في المنطقة، وذلك في مقابل تغاضي ترامب عن واقع ما يجري داخل هذه الدول ومجتمعاتها، وتخليه، كسابقيه في البيت الأبيض، عن مسؤولياته رئيس دولة مهمتها الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. على المقلب الآخر، كان الدعم العربي للرئيس المنتخب، جو بايدن، في معظمه، يعود إلى أسباب الخلافات العربية التي عمق أساساتها، وبنى عليها ترامب ذاته سياسته في المنطقة، بحيث جعل من هذه الخلافات أحد مصادر استثماراته. وكما فعل في الوضع العربي، يخرج من البيت الأبيض، وقد حقق فعليا انقساما داخل المجتمع الأميركي، قد يكون سببا مباشرا في عرقلة التغيير الذي ينشده أنصار الحزب الديمقراطي، أو الذين صوّتوا لمصلحته من غير الديمقراطيين، كنوع من رفض ما سمي الطابع “الترامبي” الذي اعتبروه هزيمة لقيم أميركا الحرّة. ولعل وجود نحو سبعين مليون ناخب صوتوا لترامب ستكون العلامة الفارقة في صناعة سياسة بايدن المجبرة على معالجة أعراض الترامبية الثقيلة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها.
وفي السياق، لم تكن المعارضة السورية في منأىً عن الاصطفاف “مع أو ضد” ترامب كل حسب مصالحه الضيقة، على الرغم من أن سياسة ترامب أربع سنوات لم تختلف عن سياسة سابقه، باراك أوباما، في البيت الأبيض في تدجين الصراع مرة، واحتوائه بما يضمن استمراريته عند الضرورة مرة ثانية، وتخفيف وتيرته عند الحاجة السياسية مرة ثالثة، وإعطاء مكافآت لدول إقليمية ومجاورة على حساب السوريين مرّة رابعة، ومن حصتهم في وطنهم، واتباع سياسة “التلزيم” على مبدأ “المقاولين” في منح روسيا حق التصرّف في سورية، وتطمينها بالموافقة على عملية استثمارية طويلة الأمد فيها. وهو الأمر الذي لن يتغير مع وجود رئيس ديمقراطي في البيت الأبيض، بل سيعزّز سياسات أوباما الذي منحها حق التفاوض عن النظام السوري منذ عام 2013، وقبل بصفقة تسليم السلاح الكيماوي، مقابل السكوت عن نتائج استخدام هذا السلاح ضد السوريين في المناطق التي ثارت عليه.
وضمن القراءات الواقعية للسياسات الأميركية من الجانب الروسي، جاء توقيت المؤتمر الدولي حول اللاجئين في دمشق بين 11-12 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، حيث لم يكن غائباً عن موسكو موعد الانتخابات الأميركية في الثالث من الشهر نفسه، وأنها لا يمكنها أن تضمن مرشحها، ترامب، لفترة رئاسية ثانية. ما يعني أنها تعرف أن السياسة الأميركية في الملف السوري لا تعديل عليها في جانبها الروسي، وهي تعرف أن تسويق الرفض الأميركي المؤتمر لا يعدو كونه رفضاً إعلامياً مشابهاً لما حدث قبيل الدعوة إلى مؤتمر أستانة عام 2016، ولاحقاً مؤتمر سوتشي (الحوار الوطني) 2018، وبعده تعويم بيانه الختامي في جنيف، وانتزاع الموافقة عليه من كل الأطراف، واختصار الحلول في سورية على الخطوات الروسية، واتفاقاتها ومعاهداتها منذ عام 2015، أي أن تلزيم الملف السوري لموسكو لم يبدأ مع عهد ترامب، ولن ينتهي مع خروجه من البيت الأبيض في 20 من يناير/ كانون الثاني.
لم تجعل هذه الإحداثيات المعارضة السورية (الائتلاف) تغير سياسة الإنكار التي مارستها خلال توليها أمر السوريين على الجانب المعارض، بل بقيت تمارس لعبة إخفاء الرأس تحت التراب، كأحد أساليب تعاملاتها الثابتة مع واقع متغير، والائتلاف الوطني لقوى المعارضة الذي أعلن “تحفظه” الرافض عقد مؤتمر دولي حول اللاجئين في دمشق هو ذاته من كان قد رفض صناعة مسار أستانة عند ترويجه في نهاية عام 2015 وبداية عام 2016، ثم عاد وأصبح أحد المشاركين فيه، بقرار تركي، من دون العودة إلى الهيئة السياسية التي كانت المسؤولة عن قبول مثل هذه المشاركات أو رفضها، وهو الذي أعلن رفضه حضور مؤتمر سوتشي في يناير/ كانون الثاني 2018، ثم عاد وتعامل مع نتائجه كخطة عمل تمثلت في اختصار الحل السياسي بإنشاء لجنة لصياغة الدستور السوري، أو تعديله في جنيف.
على الرغم من أن مؤتمر اللاجئين فكرة روسية، فهو، في الآن نفسه، دعاية انتخابية دولية لبشار الأسد في استحقاق الانتخاب الرئاسي منتصف العام المقبل، وهو اليوم يواجه الأجواء نفسها التي سبقت مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي (2018) ويحضره أطراف أستانة وممثلون عن دول الجوار، سواء كان هذا الحضور بمستوى تمثيلي عالٍ أو منخفض، فهو تشريع دولي له، ولنتائجه. ويأتي حضور ممثل الأمم المتحدة في دمشق بصفة مراقب ليعطي المؤتمر أبعاده التي تسعى إليها موسكو خطوة أولية لتأسيس مسار جديد تحت مسمى إنساني، يرافق مسار أستانة العسكري، ويطوّقان معاً المسار السياسي المحدود أصلا في جنيف.
تتكرّر خديعة موسكو للمعارضة في أستانة وسوتشي، هذه المرة، في دمشق، مع بداية عهد أميركي جديد، تسعى من خلاله موسكو وإيران، وإلى جانبهما تركيا (حليفة الائتلاف الوطني الرافض للمؤتمر)، إلى اختبار حقيقي للسياسات الجديدة للرئيس المنتخب، قبل أن يتخذ صفته التنفيذية. ومن خلال ذلك، سترسم خطواتها اللاحقة في تحديد المرشح الوهمي المنافس للرئيس السوري بشار الأسد، ومدى عمق التغييرات اللازمة في الدستور الجديد الذي ستقدمه عربون صداقة للساكن الجديد في البيت الأبيض، والذي يهمّه أن تكون الثلاثية الأستانية (روسيا – إيران – تركيا) ضمن قائمة أصدقائه في مرحلة ما بعد التطبيع العربي الإسرائيلي.
المصدر: العربي الجديد