في العلاقات الدولية المراحل التاريخية لها إسقاط كبير على المراحل اللاحقة، والعلاقة بين تركيا وروسيا علاقة تاريخية، ليس من السهولة فصل ماضيها عن حاضرها. بين تركيا وروسيا ثماني عشرة حربا أساسية، خسرتها كلها تركيا وربحتها كلها روسيا. ولو نظرنا إلى الخريطة الجيوسياسية، سنرى روسيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
ضمت روسيا جزيرة القرم فأصبح لها موطئ قدم في منتصف البحر الأسود، فاضطرت أنقرة إلى سحب قواتها البحرية إلى البحر الأبيض المتوسط كي لا تحصل مجابهة بينهما. وعندما دخلت روسيا كفاعل رئيسي في الحرب السورية عام 2015، أصبحت تركيا في وسط خط النار للجيوش الروسية. من فوقها شبه جزيرة القرم، ومن الجنوب سبعمئة كيلومتر حدودا مشتركة مع سوريا، فيها رادارات وقوات استراتيجية روسية، وأهم قاعدة عسكرية في حميميم.
إذن في حكم الواقع باتت موسكو تطوّق أنقرة من الشمال والجنوب والشرق والغرب. هذا التطويق الروسي الذي يتكرر اليوم، هو نفسه الذي حمل أتاتورك ليطلب من الغرب الانضمام إلى الناتو، كي يحصل على توازن مع روسيا، بعد أن طالب ستالين عام 1947 ـ 1948 بأن يكون له وجود على مضايق البسفور والدردنيل، حين ربح الحرب هو وخسرتها تركيا. هذه الحالة تربك الحسابات السياسية وأحيانا تجبر صانع القرار على اتخاذ قرارات خاطئة، لذلك كان خطأ أردوغان الأول، عندما أسقط الطائرة الروسية التي انتهكت المجال الجوي التركي. نعم كان إسقاطها مهم جدا له شخصيا، لكن لتركيا كدولة كان خطأ كبيرا، لأنه حجّم الدور التركي في أهم مسارحها الجيوسياسية بسبب الاكراد.
إن المعادلة التي تقوم عليها العلاقات الروسية التركية اليوم، تحدد نوعيتها قدرية الجغرافيا، وهذه القدرية هي التي تصنع الأهداف والمسلمات، كما أنها تقوم على الجيوبولتيك من ضمن ما يسمى بالمعضلة الأمنية، بمعنى أنه كلما قويت روسيا شعرت تركيا بالضعف، والعكس صحيح، لذلك سوف تبقى العلاقات بين الطرفين تتأرجح في حقل التعاون التكتيكي المؤقت، من ضمن الاهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، يُهندّس إحداثياتها الرئيسين بوتين وأردوغان. الأول يمثل العقلية الاستراتيجية الروسية، المشهور عنها الاختلاف التام عن كل العقول الأوروبية والامريكية. فهو عندما أتى إلى سوريا وطوّق تركيا من جميع الجهات، فهو يبعث رسالة إلى حلف الناتو، بأن أي تضييق على روسيا من قبلهم سيرد عليه بالتضييق على حليفتهم تركيا فيضعف الناتو، وكل ما يضعف الناتو يضعف الولايات المتحدة الامريكية. أما الثاني فسياساته فيها استراتيجية كبيرة على المستويين الإقليمي والدولي، وكذلك أهداف كبيرة، لكن العيب في الوسائل المتواضعة التي يملكها، لذلك نجده في كل مرة يتخذ موقفا ما بشروط عالية جدا، لكنه يضطر للانفتاح بشروط أقل. حصل هذا في موضوع سفينة مرمرة، التي ذهبت لفك الحصار عن غزة، فقطع العلاقات مع إسرائيل، ثم أعاد الانفتاح عليها بشروط أقل مما طالب به. وحصل أيضا في موضوع إسقاط الطائرة الروسية وما رافقها من تبجح تركي طويل وعريض، ثم الاعتذار من الروس والانفتاح عليهم. وأخيرا ما حصل في موضوع إدلب الاخير، والتنازل التركي عن كل المطالبات التي كانت تصر عليها في سوريا. وهذا يعني أن خيارات صانع القرار في أنقرة ليست مضبوطة.
إن طبيعة العلاقات التركية الروسية المحكومة بعوامل التاريخ والجغرافية، التي تضرب على وترها عقلية الذكريات والطموحات الامبراطورية، تجعل من سياسة الهدنة وتأخير الحساب هو الغالب فيها. وسنرى اضطرابا في نبضها بكل منعطف حاد تتقاطع فيه مصالح الطرفين، فيضطران إلى القيام بفحص الجهد لها كي لا يتوقف نبض الحياة فيها. يتجلى ذلك بشكل واضح عندما قتل أكثر من ثلاثين عسكريا تركيا في قصف جوي في إدلب مؤخرا، حيث أعطى بوتين أردوغان فرصة تنفيس غضبه، فأوقف الطائرات الروسية في سماء أدلب، وبطاريات الدفاع الجوي، كي تسرح الطائرات التركية في سماء المدينة وتثأر من الجيش السوري، الذي لم يتأكد أحد بأنه هو من قام بقصف الجنود الاتراك. هذا الفعل هو عملية فحص الجهد لمعرفة المديات، التي يمكن أن تتحملها العلاقات التركية الروسية. وعندما يعطي بوتين وأردوغان لبعضهما الآخر الفرص لتنفيس الضغط في العلاقات، فإن كل شيء بحساب. فتسامح روسيا مع طموحات تركيا في شمال سوريا، هو الثمن الذي يجب أن يدفعه بوتين مقابل حزمة الفوائد الاقتصادية والعسكرية التي سيجنيها من أنقرة. وعندما تنازل أردوغان لبوتين في قمة الاسبوع الماضي عن مطالبه بمنطقة آمنة بعمق ثلاثين كم، وتخصيص قوات برية وجوية لتوفير الأمن لهذه المنطقة، وعودة القوات السورية إلى مواقعها، قبل انطلاق العمليات الاخيرة في إدلب، كان ثمنه تجنب المواجهة العسكرية مع الروس، وخسارة مشاريع اقتصادية مهمة لبلده، وخسران نفوذه في إدلب. كما أن اتفاق وقف إطلاق النار أوقف الأصوات المعارضة له في الداخل. ومع كل ذلك فمسارات العلاقات الروسية التركية لا يمكن أن تكون متلاقية، والحساسية من الخضوع للآخر نجدها واضحة في التصريحات. الرئيس أردوغان قال إن أي خرق لوقف إطلاق النار في إدلب سنرد عليه بالنار أيضا. كما أشار إلى الخلاف بين نظرة روسيا التي تريد حل الموضوع سياسيا عن طريق أتفاق أستانة، بينما تريد تركيا الحل عن طريق جنيف والأمم المتحدة. هذه كلها رسائل يبعثها الرجل للتأكيد على أنه ليس خاضعا لروسيا، في حين كانت تصريحات بوتين تشي بأنه يريد الاستمرار في الضغط على الارض لتحسين مصالح روسيا، خاصة أنه انتزع من يد المعارضة السورية المدعومة من أنقرة الطريقين الدوليين أم 4 وأم 5 اللذين يربطان حلب باللاذقية وحلب بدمشق. وحتى قبل لقاء القمة حرصت كل من أنقرة وموسكو على رفع سقف التفاوض، وإشهار كارتات حمر في وجه بعضهما بعضا.
كان بيان وزارة الدفاع الروسية قد أتهم تركيا بأنها لم تحترم اتفاق سوتشي، وأن القوات التركية ذهبت للاندماج مع فصائل المعارضة الإرهابية، وأن أنقرة أدخلت قوات كبيرة إلى سوريا وهو يخالف القوانين الدولية، في حين رفعت تركيا سقف تفاوضها، إلى الحد الذي قالت فيه إنها تريد عودة القوات السورية إلى ما قبل الهجوم على إدلب وحلب، كما أنها طلبت من حلف الناتو النزول لدعم تركيا في إدلب.
إن المنافع التي تجنيها موسكو من علاقتها مع أنقرة تفوق المتحقق منها للأخيرة. وأن أسعد ما يحصل عليه بوتين، هذه الأيام من هذه العلاقة، أن تركيا تدفع باللاجئين تجاه أوروبا. هو يرى في ذلك إضعافا لمؤسسات الاتحاد الاوروبي الذي يعتبره تهديدا له، أمام الحكومات المركزية في دول الاتحاد، التي باتت ترفض الالتزام بما تقرره بروكسل في هذا الشأن، في حين تستفيد تركيا من العلاقة مع روسيا بالتخلص من الوقوع تحت رحمة قرارات الامريكان.
المصدر: القدس العربي