لعلَّ المشهد الأكثر تعبيراً عن حال الانقسام والارتباك التي تضرب تركيا ورئيسها رجب طيب إردوغان، هو العراك بالأيدي في مجلس النواب بين مؤيدي حزب العدالة والتنمية، وممثلي المعارضة التركية، جراء السجالات حول الخسائر البشرية التي مُني بها الجيش التركي في إدلب، واتهام الرئيس التركي بالتهاون، وبالتسبب فيها، لأنه أرسل قواته للقتال من دون تأمين تغطية جويّة لها.
في الحقيقة، يعيش إردوغان مرحلة من الحرج والتخبط وسط إدراكه مسؤولية روسيا عن الخسائر التي لحقت بجيشه، وتجنبه في الوقت عينه تحميلها هذه المسؤولية، فألقى اللوم على النظام السوري منفرداً، ووصل به الأمر حد قبوله مضطراً عقد قمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الخميس 5 مارس (آذار) الماضي في موسكو لبحث مآل معركة إدلب، ومحاولة التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
وضعُ إردوغان في هذه الآونة لا يُحسد عليه، وهو الذي يعاني من مشكلات في الداخل ومع الخارج على حد سواء هي في نهاية المطاف حصاد لسياسته. فأفعال الرجل المتهورة تراكمت بدءاً من إطاحته بسياسة «صفر مشكلات» التي قام عليها حكم حزب العدالة والتنمية في بداياته وحوّلها إلى سياسة «صفر حلول». واندفع بحلم إحياء العثمانية بشقيها القومي والإسلامي وجانبها التوسعي، ليعيد تركيا إلى الشرق ويكون لها دور وتأثير في قضاياه. فتدخّل في أكثر من دولة عربية عبر دعمه «الإخوان المسلمين»، وساهم في الانقسام الفلسطيني عبر دعمه «حماس» موتّراً علاقاته بإسرائيل، وسعى في مناورات شعبوية إلى الانفكاك النسبي عن الكتلة الأطلسية التي انتمى إليها منذ عام 1952 الكيانُ التركي الجديد الذي أسسه كمال أتاتورك، وفي خطوة غير محسوبة عمد إلى مغازلة روسيا وهي العدو اللدود التاريخي لتركيا، ليتموضع في الخندق الإيراني الروسي الداعم لنظام الأسد. هذه اللعبة لم تُكسبه ثقة الرئيس الروسي الذي شاءه مُلحقاً وعززت في الوقت عينه توّجس الغرب منه، فتوترت علاقته مع الاتحاد الأوروبي وأميركا، وبات يُنظر إليه كحليف غير موثوق به يعتمد سياسة استنفار العصبيات والاستفزاز والابتزاز وصلت إلى حد التلاعب اللاأخلاقي بملف اللاجئين السوريين.
وفي الداخل التركي، وإضافةً إلى المشكلات الاقتصادية التي تعصف به، أدّت سياسة إردوغان إلى انشقاق العديد من رفاقه في التيار الإسلامي عنه بسبب رفضهم مجاراته في سياساته الهوجاء، سواء منها التنكيل بالشخصيات المعارضة من قيادات ذات وزن مثل صلاح الدين دميرطاش زعيم الحزب الشعبوي الكردي، وآخرين، أو اعتماد التعسف والاعتباطية في سجن الآلاف من العسكريين والقضاة والأكاديميين والإعلاميين، مقوِّضاً أسس الدولة المدنية الحديثة التي كانت تركيا تمثلها في المنطقة. يبقى أن أبرز وأخطر مآثر إردوغان هي قصقصة أجنحة الجيش التركي وإضعافه، وهو الذي كان يُصنّف كأقوى جيوش المنطقة وأكثرها تنظيماً وقدرة، وقد ظهر ذلك جلياً في إدلب.
ما تأثير الوضع التركي هذا على الحرب السورية بعامة، ومسار معركة إدلب بخاصة؟
يبدو مما يجري في إدلب أن فصول المأساة السورية لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي في المدى القريب، لأن مرامي القوى المنخرطة فيها متضاربة ومتناحرة. فالروسي يمعن في سياسة الأرض المحروقة وتطبيق عقيدة غروزني من دون أن يكترث بمبادرات وتنديدات منظمات حقوق الإنسان، وكما كان متوقعاً، لم تخرج القمة الروسية – التركية إلا بوقف لإطلاق النار نعرف سلفاً أنه على غرار الاتفاقات السابقة لن يدوم. فروسيا لم ترمِ بثقلها في سورية لتتراجع اليوم، وستواصل العمل على الدفع بقوات الأسد للسيطرة على أكبر قدر من الأراضي السورية. أما إيران، فلم يكن ينقصها سوى تفشي فيروس «كورونا» على أراضيها، ليزداد إرباك النظام وهو يرى ثمرة عمله الدؤوب تنهار، إن كان في العراق أو سوريا وحتى لبنان. ومع ذلك، ثمة مصلحة روسية إيرانية لمواصلة التحالف بينهما، أقله الميداني. أما تركيا فإرباكها أكبر، لأنها غير مستعدة للتصعيد مع موسكو لاختلال ميزان القوة بين الطرفين، جراء الحال التي أوصل إليها إردوغان الجيش التركي، وتوتيره علاقات بلاده مع حلفائها التقليديين الأعضاء في «ناتو».
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وقفت إلى جانب إردوغان في خسارته الأخيرة، لكنها اكتفت بدعمه بما يكفي للحد من خسارته لا للانتصار. وهي لن تغفر له ضربه لمرجعية جنيف والتحاقه بمرجعية آستانة التي أعطت إيران شرعية التوّغل في العمق السوري بما لهذا الموضوع من أهمية بالنسبة إلى الأميركيين، كما صفقة الصواريخ مع روسيا. وإذا بقيت الأطراف الغربية لا سيّما الأميركية والأوروبية غائبة عن الساحة واقتصرت سياسة واشنطن على إمداد حلفائها في سوريا بأسلحة صغيرة وخفيفة واختصرت أوروبا اهتمامها بأزمة إدلب في الشق الإنساني وحصرته بموضوع اللاجئين السوريين، سينجح الأسد اليوم أو في الغد القريب أو البعيد ببسط كامل سيطرته على إدلب، ولن يتمكن الرئيس التركي من إقامة المنطقة العازلة التي أرادها أن تضم القسم الأكبر من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا. هذا الأمر سيُحدث إرباكاً كبيراً للحزب الحاكم في الداخل التركي يصعب تكهن نتائجه على مستقبله ومستقبل رئيسه السياسي.
هذه الظروف المستجدة لا تسمح لإردوغان إلا بحفظ ماء الوجه عبر ما يقال إنه اتفاق على وقف إطلاق النار توصلت إليه قمة موسكو، فيما هو بالواقع إذعان وقبول على مضض بالهيمنة الروسية في المسألة السورية. سبق للقيادي في الحزب الحاكم التركي رسول طوسون أن كشف أن ما تريده تركيا من القمة هو تأمين انسحاب قوات النظام السوري إلى حدود اتفاقية سوتشي، ووقف إطلاق النار، وكبح روسيا لجماح قوات النظام. لم يتحقق أي من هذه المطالب، وبدا إردوغان كمن نصبَ كميناً لنفسه وصوَّب المسدس إلى رأسه، وأقصى ما قد يصل إليه اليوم هو تسوية مع موسكو على نظام الأسد، أو ترضية من الروسي على شاكلة إشراكه بتسيير دوريات على الطرق الدولية، وتوفير حماية أوسع لنقاط المراقبة التركية على الأراضي السورية، بما يظهر أنه إعادة لشيء من التوازن بين الطرفين، لكنه في الواقع هزيمة كبرى لتركيا، وانتصار كبير للرئيس الروسي الذي نجح بفرض نفسه كمرجعية أقله في سوريا.
السؤال الملحّ هو بشأن مصير اللاجئين السوريين في الخارج والنازحين في الداخل وغالبيتهم من المسلمين السُّنة، الذين لا يريد نظام الأسد عودتهم بعد سياسة التطهير التي مارسها لتغيير وجه سوريا. للأسف، الضحية الكبرى لما يجري هم السوريون أنفسهم مع وجود أكثر من سبعة ملايين نازح ولاجئ داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى معاناة بقية الشعب السوري الذي لن يتمكن من زحزحة النظام بسبب مغامرات إردوغان وخزعبلات بوتين وزئبقية ترمب، ولامبالاة ماكرون وميركل ولا اهتمام عربي، وكل ذلك على خلفية التباينات بين داعمي المعارضة السورية. يبدو أن العالم بات دون قادة، والطبيعة تكره الفراغ.
المصدر: الشرق الاوسط