يبدو صعبا، وعصياً على الفهم، أن تذهب الحكومة اللبنانية من خلال مندوبيها من قادة الجيش وفريق الخبراء، لإجراء مفاوضاتها مع إسرائيل برعاية أميركية أممية، بمعزل عن التوافق اللبناني الداخلي، الذي يتضمن بالأساس حزب الله، صاحب القول الفصل في المشهد الميداني اللبناني، الذي أعلن موافقته على بدء مفاوضات ترسيم الحدود مع تل أبيب، بعد قرابة عشر سنوات من فشل أي مبادرة بالخصوص.
تهدف المفاوضات إلى حل نزاع لبناني إسرائيلي حول منطقة متنازع عليها تبلغ مساحتها 330 كيلومترا مربعا، تمتد على منطقة حدودهما البحرية في شرق البحر المتوسط، وهي غنية بحقول الغاز الطبيعي، ويدعي كلاهما أنها تقع ضمن “منطقتهما الاقتصادية الخالصة” و”الجرف البري”، وهما مناطق بحرية نظرية قبالة سواحلهما.
وقد حال رفض لبنان حتى الآن الدخول بمفاوضات مع إسرائيل دون إمكانية لحل القضية بشكل مباشر سلميا، رغم حقيقة توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص 2007، وبين قبرص وإسرائيل 2010، وسلسلة المحاولات لحل النزاع بمحادثات غير مباشرة بين إسرائيل ولبنان بين 2011 و2012، لكن نزاعهما اشتد بعد سلسلة من الشكاوى في رسائل دبلوماسية أرسلها لبنان للأمم المتحدة بعد توقيع اتفاق إسرائيل وقبرص.
بات واضحا أن الموافقة اللبنانية للشروع في مفاوضات مع إسرائيل، متزامنة مع مساعي قوى سياسية في لبنان تسعى لتوسيع الصدع الداخلي، فيما أعلنت ابنة الرئيس اللبناني ميشال عون، حليف حزب الله، على القناة التلفزيونية التي يملكها صهرها، أنه إذا حلت مشكلة ترسيم الحدود، فإنها تريد السلام مع إسرائيل، وتنوي زيارة القدس المحتلة.
ينظر الإسرائيليون إلى سبب يبدو هامشيا وراء سحب حزب الله لمعارضته لمحادثات الناقورة بين إسرائيل ولبنان، ويتمثل بخوفه من إدراج عون وبناته وأزواجهن السياسيين في قائمة عقوبات إدارة ترامب ضد المتعاونين مع حزب الله، وتنفيذ الإجراءات العقابية الأميركية ضدهم، وتوصل الحزب إلى حقيقة أن الإعلان في بيروت عن المحادثات صريح باسم إسرائيل، بدلاً من “الكيان الصهيوني”، كما جرت العادة.
تزامنت الموافقة اللبنانية على الشروع في مفاوضات مع إسرائيل مع حديث رأس النظام السوري بشار الأسد عن عدم معارضته للعلاقات مع إسرائيل، إن انسحبت من الأراضي السورية المحتلة، وهو ما ناقشه كاتب السطور هنا.
يبدو لافتاً أن ما قد يهم اللبنانيين، في هذه المرحلة على الأقل، هو عدم التقاط الوفد اللبناني صورا مع المفاوضين الإسرائيليين، وعدم خروج “صورة عائلية” تجمع الوفدين المتفاوضين، كما جرت العادة مع باقي الوفود العربية والفلسطينية، ودون الحاجة لأن يخاطب الضباط اللبنانيون نظراءهم الإسرائيليين مباشرة، ولكن فقط أمام مندوبي الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وعدم حضور وسائل الإعلام، لا في الخارج ولا في الداخل، فضلا عن حصر المفاوضات في المستوى الفني، المتعلق بترسيم الحدود البحرية.
قبل كل شيء، يمتنع حزب الله في الوقت نفسه عن الحديث عن ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل، من أجل الاستمرار في التمسك بمسألة مزارع شبعا، لأن ذلك ليس سهلا عليه طالما أن لبنان لم يتفق مع سوريا، التي ما زالت تتمتع بالنفوذ والتأثير في الأراضي اللبنانية من خلال الحزب.
الأزمات اللبنانية الإسرائيلية على طول الطريق ما زالت ماثلة، ولا ينبغي استبعاد إمكانية إنشاء طريق سري يتجاوز المفاوضات الرسمية، فبعض الأوروبيين تطوعوا لهذه المهمة، فيما يظهر الموقف الإسرائيلي معالجة متأنية للمسألة، بدون تصريحات ومقابلات ومؤتمرات صحفية، حتى بدون خلافات من السياسيين، لأن كل ما تريده إسرائيل من لبنان اتفاقا يزيد من حصانة منصات الغاز التابعة لها، وإلى جانبه إشارة للبنانيين بأن الأعمال التجارية قد تتم مع الإسرائيليين.
مع العلم أن حزب الله وحركة أمل أعلنا رفضهما لتشكيلة الوفد اللبناني المفاوض، بزعم عدم الانجرار لما يريده “العدو الإسرائيلي” من خلال تشكيلة الوفد، لأنه يضم بأغلبيته شخصيات ذات طابع سياسي واقتصادي، واعتبرا هذه التشكيلة خروجا عن إطار قاعدة التفاهم الذي قام عليه الاتفاق، مما يضر بموقف لبنان ومصلحته العليا، ويمثل تسليما بالمنطق الإسرائيلي الذي يريد أي شكل من أشكال التطبيع.
تعتبر إسرائيل من جهتها أن بدء المفاوضات مع لبنان حول ترسيم حدودهما البحرية يطوي صفحة خلاف دامت أكثر من ثلاثين عاما، منذ إجراء آخر مفاوضات بهذا الإطار، مع العلم أن لبنان من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ورغم أن مشاركة إسرائيل نشطة في المفاوضات، لكنها لم تصادق عليها، أو تنضم إليها.
قد يكون للمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية لتسوية حدودهما البحرية تداعيات إقليمية واسعة النطاق، في ضوء توقيع اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين، كما أن العامل الأهم الذي قد يقود البلدين للتفاوض هو الفوائد الاقتصادية المحتملة، وكذلك لجميع دول المنطقة المتعاونة في إنتاج الغاز الطبيعي، وتسويقه، رغم حالة التردد والعداء وانعدام الثقة المتأصل بينهما.
تتطلع إسرائيل لفوائد التعاون بين المناطق الإقليمية المجاورة، مثل لبنان وقبرص ومصر، وحتى سوريا وتركيا، مما يؤدي لتعزيز المشاريع الإقليمية مثل نقل الغاز إلى أوروبا، وما وراءها، وإدارة موارد الحياة كمصايد الأسماك، ومكافحة التلوث، والحفاظ على البيئة البحرية، والسياحة التي تربط شرق المتوسط بأوروبا، حيث تحدثت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عن كمية احتياطيات حوض الشام البالغة 1.7 مليار برميل من النفط، و122 تريليون قدم مكعب من الغاز.
تفضل إسرائيل في مفاوضاتها البحرية مع لبنان تخطيط الحدود باستخدام التسمية الخطية بزاوية 90 درجة بسيطة قرب الحدود البرية، فيما يفضل لبنان رسم خريطة للحدود كاستمرار مباشر للحدود البرية، ومثل هذا الاختلاف في طرق ترسيم الحدود البحرية ليس مسألة فنية، لكنه جوهري، وفقا لطريقة ترسيم الحدود المفضلة لديه، للحصول على أقصى مساحة لقاع البحر على حساب الطرف الآخر لجميع المنافع الاقتصادية.
يعيد الشروع بالمفاوضات البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى الأذهان مؤتمر مدريد للسلام 1991، وحصول 12 جولة من محادثاتهما الثنائية، وتبادل مسودة اتفاق سلام بينهما، شمل كل مكوناته، بما فيه الاعتراف المتبادل بالسيادة، وحسن الجوار، والعلاقات الدبلوماسية، والتنسيق الأمني، والتطبيع، وأصبح الاتفاق ممكنا، نظرا لعدم وجود مشكلة إقليمية بين الطرفين، إلا أن الترابط بين الملفين السوري واللبناني منع إنجاز سلام منفصل بين إسرائيل ولبنان.
عامل مهم يجعل المفاوضات الجارية مع لبنان لافتة، أنها تأتي بعد توقيع اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين، لأنها فتحت عهدا جديدا من القبول والاعتراف وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، مما يجعل إسرائيل تزعم أن هذا التطور لا يمكن للبنان تجاهله، وهو يدخل مفاوضات عملية معها على حدودهما البحرية المشتركة.
تشير المفاوضات البحرية إلى مراحل تطور العلاقات بين لبنان وإسرائيل، ولا يمكن إنكار حقيقة أن الاعتراف المتبادل يحدث بينهما بعد فترة طويلة من انتهاء حالة نزاع مسلح بينهما، ومع ذلك فلم يتم التوصل لحالة سلام بعد، صحيح أنه من المشكوك فيه ما إذا كانت هناك حالة حرب مستمرة ونشطة بينهما، لكن المثير فعلا أنه للمرة الأولى، لم يعد القادة اللبنانيون يستخدمون مصطلح” العدو “في إشارة لإسرائيل.
تدعي المحافل الإسرائيلية أن المفاوضات الجديدة مع لبنان، ورغم محدودية الزمان والمكان، تقدم اعترافا فعليا بإسرائيل، وتتزامن مع توقيع اتفاقيات التطبيع مع دول الخليج العربي، ويمكن الافتراض أن الدول الأخرى التي تحاول حل نزاعاتها البحرية الثنائية والإقليمية حول العالم ستنظر باهتمام كبير في المحادثات المتوقعة بين إسرائيل ولبنان، تمهيدا لتعزيز المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الحيوية في الحدود البحرية.
في الوقت ذاته، وبعد أن رسمت الأمم المتحدة الحدود بين البلدين عقب الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في صيف 2000، سارع اللبنانيون للقول إن هناك 13 مكانا على طول الحدود من رأس الناقورة إلى جبل الشيخ ما زالت تحت سيطرة إسرائيل، رغم أنها مناطق لبنانية كاملة، ويجب استعادتها للدولة اللبنانية، لكن إسرائيل لم توافق في حينه على المطالب اللبنانية، وبدأت بإقامة جدار أمني على طول الحدود التي أقرتها الأمم المتحدة، ما يعني أن الأزمة الحدودية البرية ما زالت ماثلة بين البلدين.
من الواضح أن الحل الذي اقترحه الأميركيون يعتمد على الفصل بين ملفي الحدود: البرية والبحرية، مما قد يسهل في حلهما، واحدا بعد الآخر، وفيما تواصل الطواقم الفنية عملها ومفاوضاتها، يستمر عمل الشركات الدولية في استخراج الغاز من الحقول البحرية، وتوزيع المكاسب المالية مناصفة بين لبنان وإسرائيل، وبعد أن تنتهي لجان التحكيم القانونية من عملها يتم إلزام الدولتين بقراراتها.
لم يمر الشروع في مفاوضات لبنانية إسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية بهدوء ودون خلافات، كما هي عادة الساحة اللبنانية، فالفريق الموافق عليها يبرر موقفه بالقول إن الاقتصاد اللبناني يمر بأزمة صعبة، ومدخولات الغاز كفيلة بتحسين الوضع المالي للدولة، لكن معارضيها يخشون أن حل مشكلة الحدود البرية لاحقا سوف يمر من تحت أقدامهم، ولن يعود لهم مبرر لاتهام إسرائيل باحتلال أجزاء من الدولة اللبنانية، وستوضع علامات استفهام حول مشروعية حيازته للسلاح، مما قد يفتح حوارا لبنانيا داخليا حول الحاجة لتفكيكه.
الخلاصة أن الولايات المتحدة أرادت الفصل بين الملفين البري والبحري، وهو ما حصل فعلا، كي تتمكن من نقل الغاز عبر إسرائيل وقبرص إلى أوروبا دون أن يمر تحت تهديد حزب الله، وبذلك تعمل أميركا على الإضرار بمكانة روسيا الاقتصادية، لأنها المزود الرئيسي لأوروبا من احتياجاتها من الغاز، ويمكن الافتراض أن هذه الموضوعات طرحت للنقاش خلال الجولات الأميركية الأخيرة على إسرائيل ولبنان، من أجل تقليل فرص التوتر بينهما.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا