تعود التوترات إلى إدلب بعد مباحثات هاتفية بين وزيري الدفاع الروسي سيرغي شويغو والتركي خلوصي أكار، من الواضح أنها أفضت إلى مزيد من التعقيد حول ملف المحافظة ضمن الحسابات الروسية-التركية المتشابكة في كثير من الملفات إقليمياً. ويبدو احتمال التصعيد من جديد وارداً لطرفي القتال، فالمطالب التركية لا تزال قائمة بإبعاد قوات النظام السوري إلى ما وراء حدود “اتفاق سوتشي”، في الوقت الذي لا تزال تبرز فيه نوايا النظام والروس بالتوغل أكثر في المحافظة، للوصول إلى الطريق الدولي حلب-اللاذقية “أم 4″، مع هواجس من ارتكاب مزيدٍ من المجازر، واستخدام السلاح الكيميائي مجدداً، أخذاً بعين الاعتبار التحذيرات الروسية، التي تأتي على شكل تهديدات.
وشنّ سلاح الجو الروسي، صباح أمس الأربعاء، خمس غارات على منطقة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، شمالي غرب البلاد، موقعاً قتلى وجرحى. وقالت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” إن الطيران الحربي الروسي شنّ عشر غارات بشكل متتالٍ على قرية حرش الحمامة في ناحية جسر الشغور بريف إدلب الغربي، وذلك تزامناً مع تحليق مكثف من الطيران الحربي في سماء “منطقة خفض التصعيد” (إدلب وما حولها) الخاضعة لوقف إطلاق النار بناء على الاتفاق الروسي التركي الذي تم التوصل إليه في بداية مارس/ آذار من هذا العام.
وأشارت مراصد الطيران المحلية إلى أنها وثّقت تحليق ست طائرات حربية روسية في أجواء إدلب، وذلك بعد إقلاعها من مطار حميميم (القاعدة الجوية الروسية) في ريف اللاذقية، فيما قالت مصادر لـ”العربي الجديد” إن القصف أسفر عن سقوط 15 من عناصر “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بين قتيل وجريح جراء غارات أصابت مقرات لهم بشكل مباشر في المنطقة التي تخضع لسيطرة الهيئة.
في غضون ذلك، قصفت قوات النظام السوري بالمدفعية والصواريخ مناطق في محيط بلدتي كنصفرة والفطيرة في جبل الزاوية جنوب الطريق الدولي “أم 4” في ريف إدلب الجنوبي، موقعة أضراراً مادية في ممتلكات المدنيين، وهي مناطق قريبة من خطوط التماس والاشتباك بين فصائل المعارضة والجيش التركي من جهة، وقوات النظام والمليشيات الإيرانية والروسية المساندة لها من جهة أخرى.
وجدد “مركز المصالحة الروسي” في سورية مزاعمه بالحصول على معلومات عن نيّة المعارضة تنفيذ هجوم كيميائي جنوبي إدلب. وقال نائب رئيس المركز اللواء البحري ألكسندر غرينكيفيتش، إن “الإرهابيين نقلوا براميل من الكلور إلى منطقة خان شيخون”. مضيفاً: “الخوذ البيض وصلوا إلى المنطقة المشار إليها في 3 سيارات، لمحاكاة عملية مساعدة الضحايا”، زاعماً أن “الهدف من الهجوم توجيه الاتهام للقوات الحكومية باستخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين”.
وتخضع خان شيخون ومحيطها بالكامل لسيطرة قوات النظام، مع صعوبة دخول المعارضة إليها إلا بتنفيذ عمل عسكري واسع النطاق، وها ما أوضحه مصدر في الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) لـ”العربي الجديد”، قائلاً إن مركز المصالحة “يكذب بشكل واضح، إذ من الصعوبة لفرق الدفاع المدني الوصول إلى خان شيخون”. وتكررت التحذيرات الروسية من شنّ المعارضة هجوماً كيميائياً في إدلب، ما يفسره مدنيون وناشطون على أنه تمهيد روسي لتنفيذ هجوم كيميائي من قبل النظام وإلصاق التهمة سلفاً بقوات المعارضة، وهذا ما عمد إليه النظام قبيل تنفيذ هجمات سابقة.
ويأتي هذا التصعيد بعد يوم من مباحثات روسية – تركية على مستوى وزيري دفاع البلدين والتي تضمنت الحديث عن إدلب، إلى جانب ملفات أخرى مشتركة. وأوضح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لنظيره الروسي سيرغي شويغو أن أنقرة أوفت بالتزاماتها في إطار الاتفاق المبرم في 5 مارس الماضي بخصوص ضمان السلام والاستقرار في إدلب السورية، مؤكداً أن بلاده تواصل بذل ما بوسعها من أجل أن يتمكن الناس الأبرياء من العودة إلى منازلهم بشكل طوعي وآمن. وفي اليوم الذي جرى فيه الاتصال بين الوزيرين، كان أكار قد أكد خلال كلمة له أن قوات بلاده دخلت إدلب لوضع حد لقوات النظام التي قتلت آلاف الناس في المحافظة، موضحاً أن أنقرة تواصل مباحثاتها مع موسكو حيال الشأن السوري، وأن الدبلوماسيين الأتراك يجرون مباحثات في العاصمتين مع نظرائهم الروس لإيجاد حل سلمي وسياسي للأوضاع في سورية.
ويشير حديث الوزير التركي حول إعادة المدنيين منازلهم في إدلب، إلى استمرار تمسك أنقرة بمطلبها بانسحاب النظام إلى ما وراء النقاط العسكرية التركية المنتشرة حول “منطقة خفض التصعيد” (إدلب وما حولها)، وتلك منطقة أقرتها مباحثات أستانة في مايو/ أيار 2017 وثبّت حدودها اتفاق سوتشي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/أيلول 2018، قبل أن يتقدّم النظام إليها ويقضم بدعم روسي وإيراني أجزاء واسعةً منها. لكن هذا الطرح تحاول موسكو التهرب منه بالمطلق، إذ لا تزال ترسل رسائلها مباشرة عبر طيرانها أو عن طرق مدفعية النظام ووسائل إعلامه برغبتها بالتقدم أكثر في المحافظة من دون التفكير في خيارات التراجع.
وتضع روسيا حالياً هدفاً استراتيجياً نصب أعينها في إدلب، وهو الوصول إلى الطريق الدولي حلب-اللاذقية “أم 4” لفتحه أمام الحركة الطبيعة والتجارية، وهذا لن يحدث إلا بدعم قوات النظام بالتقدم نحو مدينتي جسر الشغور وأريحا الواقعتين على الطريق. وعلى الرغم من أن أنقرة اشتركت في الدوريات العسكرية مع الروس على طريق “أم 4” بناء على اتفاق موسكو في 5 مارس، إلا أنها لا تزال تبدي اعتراضها على افتتاح الطريق بناء على رغبة موسكو، ما لم يتم إيجاد حل يرضي تطلعاتها بخصوص المشاركة بالوقوف على الطريق الدولي حلب-دمشق “أم 5″، بالإضافة إلى بحث مصير المدن والقرى الواقعة على جانبيه، التي تقدمت إليها قوات النظام وأبعدت عنها حوالي 1.7 مدني بات معظمهم على الحدود السورية-التركية.
وقال مصدر سياسي تركي مقرب من الحكومة، لـ”العربي الجديد”، إن بلاده وخلال المباحثات الأخيرة بين الدبلوماسيين الروس والأتراك منتصف الشهر الماضي، أصرّت على تطبيق اتفاق سوتشي وحدوده الجغرافية بالكامل لتتمكن من إعادة المدنيين، موضحاً أن مناطق شمالي طريق “أم 4” باتت تحت النفوذ التركي بمباركة دولية، في حين لا تزال مناطق جنوب الطريق نقطة خلاف بين بلاده والروس، مشيراً إلى أنها يجب أن تكون تحت التحكم المشترك للبلدين، وعدم السماح للنظام بدخولها. وأوضح المصدر أن هناك الكثير من أوراق الضغط لكل من روسيا وتركيا على بعضهما في الكثير من الملفات قد تستخدم خلال المباحثات المقبلة حول إدلب وغيرها من الملفات، غير أن بلاده مصرة على تطبيق اتفاق سوتشي. ونفى قبول أنقرة باتفاق مقايضة كانت وسائل إعلام روسية تحدثت عنه، بانسحاب تركيا من جنوب إدلب مقابل تسليم منبج وتل رفعت شمالي حلب لها، موضحاً أن هذه الطرح ليس مقبولاً وغير مطروح من قبل المسؤولين الأتراك.
المصدر: العربي الجديد