البنية الاجتماعية السورية الراهنة

حيّان جابر

تنطلق غالبية المؤسسات الثقافية والإعلامية السورية، في إحاطتها للشأن السوري، من إحدى زاويتين في أغلب الأحيان: استعراض التبدّلات والتقلبات الحاصلة على صعيد العلاقات الدولية، سيما فيما يخص الدول الفاعلة والمسيطرة والمؤثرة في الوضع السوري، بغرض التنبؤ بانعكاساتها على الوضع السوري الراهن والمستقبلي من ناحية. أو عبر استعادة شعارات الثورة العامة، بهدف التأكيد على بعض العناوين العريضة، كالانتقال الديمقراطي والمرحلة الانتقالية وتبادل السلطة. في حين تشحّ المواد المعنية باستعراض الواقع الاجتماعي السوري الراهن، كما تندر المواد المهتمة بفهم أهداف السوريين وعرضها بكل وضوح وتفصيل، بعيداً عن ترديد الشعارات العريضة نفسها التي لا تعبر عن مجمل الظلم والقهر الذي عانى منه السوريون قبل اندلاع ثورتهم، والذي دفعهم نحو الثورة في العام 2011.

وذلك فيما نحن مطالبون بفهم التغيرات في البنية الاجتماعية السورية الراهنة، كمقدمة ضرورية من أجل استعادة فاعليتها في أقرب وقت ممكن، على اعتبار أن استنهاضها واستعادة دورها طريق الخلاص الوطني الوحيد المضمون، راهناً ومستقبلاً. حيث بات من الواضح استعصاء الحل السياسي الدولي السوري. كما أن التعويل على الحل الدولي في سورية مضيعة للوقت، فهو لم ولن يعبر عن الحد الأدنى من تطلعات الشعب السوري. ولن يضمن للسوريين الأمان والإستقرار المنشود في المدى المنظور، بحكم حجم التنافس الدولي الكبير على سورية. الأمر الذي يضع أمام السوريين حلا وحيداً للخلاص من الكارثة التي حلت بهم، ويعيد إليهم الأمل ببناء سورية التي يحلمون بها، ينطلق من استعادة الدور الشعبي السوري أولاً، والنجاح في تنظيمه وتأطيره برامجيا وسياسيا واجتماعيا ثانياً. ما يفرض، بدايةً، فهم جميع التبدلات والتحولات في ظروف الشعب السوري، وفي أولوياته وحاجاته الملحّة.

الانقسام السوري

يظهر التدقيق في الوضع الاجتماعي السوري، بوضوح، تأثره بالقوى المحلية والدولية المسيطرة على كل منطقة، لنصبح أمام بنىً اجتماعية سورية متباينة في أهدافها، كالبنى الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الموجودة في مناطق السيطرة التركية، وأخرى في محافظتي درعا والسويداء، ومناطق سيطرة قوات الحماية الكردية. فضلا عن السوريين في مخيمات اللجوء المحاذية للحدود التركية، وداخل تركيا. وكذلك في الأردن ولبنان، وصولا إلى السوريين في دول اللجوء المستقرّ في بعض الدول الأوروبية وأميركا وكندا، من دون أن يُنسى السوريون العالقون في اليونان وسواها من الدول التي تنبذ الوجود السوري.

فرضت القوى المسيطرة على سورية واقعا جديدا، مغايرا عن الواقع السائد في بداية الثورة، وقد انعكس ذلك منذ مدة طويلة نسبيا في أشكال عديدة، تجسّدت في تبدّل أولويات كل من التجمعات السورية. ولا يعني هذا غياب الأهداف السورية الجامعة، ممثلة بأهداف الثورة كليا، بقدر ما يعني تبدّلا في الأولويات الآنية. كما أن آنية هذه الأولويات لا تعني هامشيتها وثانويتها، كونها تمسّ قدرة السوري على الصمود والبقاء والحفاظ على حياته وأمنه الشخصي والعائلي. لذا غدت الأولويات المناطقية المتباينة اليوم بين تجمّع سوري ونظيره على تعارض فيما بينها في أحيان كثيرة، كما فرض مكان الوجود على بعض السوريين نوعا من الاصطفاف الآني الذي يتناقض مع القناعة السياسية، نتيجة المخاطر الأمنية المُحدقة بهذا التجمع.

لذا اختلفت معاني الانقسام السوري ودلالاته اليوم عمّا كان عليه في بدايات الثورة السورية، والذي كان يعبر حينها عن انقسام اجتماعي سياسي، تجسّد في ثنائية ثورة – نظام، وهو ما نجح النظام في البناء عليه، لرسم حدود فاصلة بين كل منهما، ما حال دون اقتحام الوعي الثوري حاضنة النظام. كما تتحمّل المعارضة السورية الرسمية والإعلامية جزءا من مسؤولية استمرار انقسام السوريين بين ثنائية ثورة – نظام نتيجة تسليمها المطلق لهذا الإنقسام، وتجاهلها أهمية التعبئة والتحريض في رأب الصدع، ورفد الثورة بفئات وشرائح جديدة، وإهمالها دور الخطاب والبرنامج السياسي الواضح والكامل في ذلك أيضاً. لكن وكي لا نغرق كثيراً في نقد المرحلة الماضية، تتم الإشارة هنا إلى تحولات البنية الإجتماعية السورية ذات الأهمية الكبيرة، والتي أدت إلى إحداث تغيير في معنى مصطلح الإنقسام السوري الذي استخدم منذ 2011، ليُضحي تعبيراً عن بنية اجتماعية مركّبة من الإنقسامات الجغرافية والسياسية والإجتماعية، وأحيانا الثقافية، والتي غالبا ما تجتمع معا بصورةٍ يصعب فصل أحدها عن الآخر.

وبالتالي لا يتحمل النظام مسؤولية الإنقسام الراهن وحده، مع ضرورة التأكيد على مسؤوليته الكبيرة فيه، بل تطاول المسؤولية أيضا جميع القوى المسيطرة، الخارجية والمحلية، كما تطاول قوى المعارضة الرسمية السورية والفئات المثقفة والسياسية المستقلة أيضا، وصولا إلى المسؤولية الثورية كذلك. وفيما يخص مسؤولية القوى المسيطرة، يجب الإشارة إلى تجاهلها المطلق مجمل أهداف السوريين الجامعة، ما حوّلها إلى قوى قسرية تفرض مصالحها ورغباتها الخاصة، بغضّ النظر عن واقع السوريين وحالهم، لذا أصبحت مصدر تهديد حقيقي لوحدة المجتمع والأرض والثروات والإمكانيات والقدرات السورية، آنيا ومستقبلا، فضلاً عن دورها في نهب خيرات المنطقة والسكان وثرواتهما. لذا لم يعد تخوّف جزء مهم من جمهور الثورة السورية من تبعات الطموحات التركية مستغرباً، خصوصا في الوسط الإجتماعي خارج مناطق سيطرة تركية. كما لا نستغرب مهادنة جزء من الوسط الثوري السوري روسيا تحديداً في المناطق المعرّضة لتهديد أمني آخر، كمحافظة درعا ومناطق سيطرة قوات الحماية الكردية، فالمعادلة القائمة اليوم في جميع المناطق السورية تتجسّد في تمسك السوريين بالحد الأدنى من الإستقرار الأمني، ونسبيا المعيشي، وتخوفهم من تبعات تبدل القوى المسيطرة على أحوالهم وحياتهم، وهو أمر طبيعي ومنطقي، في غياب دور سوري وطني يمثل مصالح السوريين، دون غيرهم من قوى وجهات.

في حين تتبدّى مسؤولية قوى المعارضة السورية، الرسمية منها والفردية، في عجزها عن مواكبة التطورات السورية الميدانية، وحفاظها على الخطاب الجامد والثابت سياسيا وإعلاميا، وكأن سورية 2020 هي ذاتها في 2011، ليدور مجمل الخطاب المعارض السوري في فلك الثوابت الثورية الأولى، وبالتحديد في مهمة ثورية واحدة تتمثّل في إسقاط نظام الأسد فقط. أي أن النخب السورية المثقفة والسياسية بغالبيتها العظمى لم تع مدى ثانوية الأسد ونظامه اليوم على أحوال السوريين اليومية والمستقبلية، كما لم تع (أو تجاهلت) مدى ثانوية تأثير الأسد عليها، بما لا يبرّئ الأسد من كل ما حصل ويحصل في سورية. إلا أن واقع الإحتلالات والقوى القسرية المتعدّدة يجب أن يفرض قراءة ثورية موازية لهذا الواقع، تنظر إلى الكل السوري بسواسية واضحة، وبالتالي إلى كل القوى المحتلة والمستبدة بالسواسية والأهمية نفسها. فلو فرضنا جدلا خروج الأسد من المعادلة اليوم، موتاً أو عبر استبداله روسيا بشخصية أخرى كما يتم تداوله إعلاميا بين الفينة والأخرى، هل سيلمس السوريون أي تبدّل ميداني في أعقاب خروج الأسد من المعادلة السورية؟ أكاد أجزم بهامشية الخبر ومحدودية تأثيره ميدانيا، فلن يزول خطر اقتحام المليشيات المحسوبة على إيران محافظة درعا، أو خطر سيطرة الأتراك والكتائب التابعة لهم على مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو سيطرة روسيا عليها، كما لن يزول خطر تمادي النفوذ الإيراني ميدانيا داخل العاصمة دمشق أو في محافظة حلب وربما السويداء، وصولا إلى بعض المدن الساحلية. إذ لم يعد الأسد وحده رمزاً للإستبداد والظلم والقمع والقهر السوري، بل تعدّدت رموز الإستبداد ومصادره لتطاول جميع القوى الفاعلة في الأرض السورية. وهو ما يدركه السوري البسيط المعرّض لخطر إيران؛ تركيا؛ روسيا؛ “قسد”؛ الأسد، وفق مكان إقامته الحالية. وبغض النظر عن حقيقية موقفه السياسي الداعم للثورة أو المعارض لها أو حتى المحايد والمستسلم لأي قوى مسيطرة. ولنا في مئات الأمثلة عن ذلك من قصص جرى تداولها كثيراً في مجمل المواقع الإعلامية السورية، بعد أي تبدّل في سيطرة القوى على أي منطقة سورية.

أما المسؤولية الثورية عن هذا المآل السوري المحبط، فتتمثل في تراجع قيم الثورة السورية عند مجمل الخطاب المعارض السياسي والإعلامي والإجتماعي الذي أهملها أو تجاهلها في قراءة الأحداث الحاصلة في سورية، وبالتالي في تحديد الموقف الثوري منها. ليتصاعد بدلا منها خطابٌ يبرّر التجاوزات السورية والدولية، على أمل إلحاقها الضرر بالأسد ونظامه، بل تحوّل من خطابٍ يتجاهل بعض المستبدّين والمجرمين غير الأسديين إلى خطابٍ يحابيهم على اعتبارهم شرا لا بد منه للقضاء على استبداد الأسد وإجرامه. وهو ما برّر أفعالا قسرية كثيرة مناقضة لمسار الثورة السورية، بذريعة المصلحة الآنية وأولوية إسقاط الأسد، وهو ما دفع الأمور إلى نتيجة مغايرة لهذه الآمال، فلم يسقط الأسد، بل على العكس، لقد تكاثر وأصبح لدينا أسود استبداديون ومجرمون لا حصر لهم، وانتشروا على امتداد الجغرافيا السورية.

كما خضع اللاجئون السوريون في دول الجوار السوري إلى هيمنة توجهات الدول المضيفة عليهم، بحكم خطر الطرد أو النفي أو الاعتقال، وصولا إلى خطر التسليم للأمن السوري، وبسبب خفوت قوة الدعم السوري- السوري لهم وتراجعه، بشقيها الرسمي، ممثلا بالنظام والمعارضة، والثوري، ممثلا بتراجع الحضور والإهتمام الشعبي السوري بهم وبقضاياهم اليومية، أو على الأقل حصره في اهتمام خدمي بسيط، عبر تبرّعات عينية ومادية موسمية غالبا. إذا لم يجد اللاجئون السوريون في دول الجوار السوري أي دعم سياسي وإعلامي ومعنوي لهم، ولظروفهم في مواجهة هيمنة الدول المضيفة لهم، حتى باتوا ورقة مساومة في أيدي تلك الدول، يبيعونهم متى شاؤوا، وبأي ثمن يشاؤون، في ظل صمت سوري مطبق، رسمي وثوري للأسف. لذا لا غرابة اليوم إن تراجع حضور هذه الفئة من اللاجئين السوريين سياسيا، لصالح بحثهم الحثيث عمّا يسد الرمق ويؤوي الجسد، من دون أي محاولة منهم للتأثير في .واقع سورية ومستقبلها

وأخيرا لدينا المقيمون في دول اللجوء المتحضّرة والمستقرّة ودول الهجرة الدائمة، المتحرّرون نسبيا من هموم الحياة اليومية ومتطلباتها السكنية والغذائية والطبية، لكنهم يخضعون لظروف جديدة كليا عليهم، وعلى عاداتهم بحسناتها وسلبياتها، ما انعكس على توازنهم الشخصي، وعلى قدرتهم في الموازنة بين حاجاتهم والتزاماتهم اليومية كتعلم اللغة وتعديل شهاداتهم العلمية وزيادة تحصيلهم العلمي، إلى العمل في مهن وآليات جديدة كليا عليهم. وهم في غالبيتهم ممن عجزوا عن مواكبة التطوّرات السورية الاجتماعية والسياسية والميدانية، ليبقوا أسرى الفهم الأول القائم على تقسيم سورية والسوريين والمجتمع الدولي، ضمن ثنائية جامدة وثابتة تتمثل في نظام – ثورة، وهو ما يدفعهم إلى تفسير أي حدث وفق هذه الثنائية فقط، حتى ولو كان على حساب سورية والسوريين.

أي لقد تنامى الانقسام السوري وتشعب كثيراً بحكم الظروف المختلفة التي يعيشها السوريون، وبات مصدر قلق حقيقي لإمكانية ترسيخه كانقسام دائم يكرّس التقسيم الجغرافي للأرض السورية، سيما إن لم يول السوريون أهمية سياسية وثقافية وإعلامية لمعالجة هذا الموضوع. لكن وعلى الرغم من مظاهر الإنقسام الإجتماعي العديدة، إلا أن عوامل توحيد السوريين، أو بالأصح عوامل حماية البنية الإجتماعية والوطنية السورية موجودة وقائمة، وهي العوامل التي يجب البناء عليها، بعد مراعاة أولويات التجمّعات السورية المتباينة، كي نتمكّن من تجاوز هذه المرحلة الصعبة، ومن التأسيس لسورية التي نرغب بها.

عوامل وحدة المجتمع

لا يستوي الحديث عن ظروف الانقسام والتجزئة السورية اجتماعيا وجغرافيا، من دون التطرّق، ولو سريعا، إلى العوامل المساعدة على استعادة وحدة الأرض والشعب السوري، حيث يساهم إهمال الإضاءة عليها اليوم في تعزيز مظاهر التجزئة على حساب الوحدة. كما تجب الإشارة إلى أن العرض السريع والمختصر السابق عن مظاهر الانقسام السوري الراهن هو ضرورة ملحّة لإدراك أهمية عوامل توحيد سورية والسوريين، ومن أجل تمكين السوريين من الإستفادة من هذه العوامل الوحدوية، فالشرط الأول لتفعيل عوامل توحيد السوريين هو قدرتنا على إدراك حاجات التجمعات السورية المتباينة ومخاوفها، والإنطلاق منها نحو مسار سوري تحرّري يضمن لجميع السوريين الحرية والمساواة والعدالة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، بل ويضمن لهم الرخاء والتقدّم أيضاً.

1 ـ سقوط الأقنعة: نجح الزمن فيما فشل فيه المثقفون والمعارضون السوريون، إذ كشف النقاب عن الوجوه الحقيقية الخاصة بجميع القوى والأطراف المسيطرة والفاعلة على الأرض السورية من دون أي تمييز، فقد عرّت السنون التسع الماضية نظام الأسد في عيون مواليه، تماما كما عرّت تركيا وروسيا وإيران وأميركا وفرنسا في عيون المتعلقين بهم، حتى اصطفّت الغالبية العظمى من السوريين؛ غير المستفيدين من تلك الأطراف بشكل مباشر؛ على نقيضهم ولو بالسر. أي قد لا يتمكّن السوري المقيم داخل مناطق الأسد من تبنّي أي موقفٍ أو خيار يثبت معارضته الأسد اليوم، بحكم الخطر الأمني المُحدق به من ناحية، وبحكم خشيته من استغلال مظاهر معارضة الأسد من قوى السيطرة والاحتلال والإستبداد والإجرام الأخرى، إيرانية كانت أم تركية أو روسية من ناحية أخرى، فجميعهم سواسية تقريبا، وجميعهم ينتظرون الفرصة المواتية للإنقضاض على مناطق سورية جديدة. وعلى المنوال ذاته، بما يخص السوري الموجود في إدلب أو شرق الفرات ودرعا والسويداء .. إلخ، فقد ثبت للسوري، بحكم التجربة التي يعيشها يوميا، أن جميع القوى المسيطرة اليوم سواسية، فهم مجرّد وجوه متعدّدة للعملة الفاسدة والمستبدة والإجرامية نفسها.

2 ـ الانهيار الاقتصادي: يعاني السوريون اليوم من تبعات الإنهيار الإقتصادي الشامل على كامل الجغرافيا السورية، بغض النظر عن هوية الطرف المسيطر في كل بقعة من أرض سورية. وهو ما يمثل تشابها مهمّا في ظروف السوريين المعيشية، التي تثبت فشل جميع الأطراف المسيطرة في إدارة الحياة الاقتصادية السورية. إذ ينعكس انهيار العملة السورية على قدرة المواطن السوري الشرائية، كما يندر توفر السلع الأساسية على امتداد الجغرافيا السورية، مع أفضلية نسبية لمنطقة على أخرى بما يخص سلعة محددة، كأفضلية مناطق سيطرة “قسد” بما يخص المشتقات النفطية، وأفضلية مناطق سيطرة تركيا بما يخصّ المواد التموينية، وأفضلية مناطق سيطرة الأسد بما يخص القطاع الطبي، لكنها مجرّد أفضليات نسبية لا ترقى إلى تلبية حاجات المواطنين الخاضعين لسيطرة هذه القوى، ما يشكّل أحد العوامل الدالة على وحدة المصير السوري، وتفرض على السوريين البحث المشترك عن مخرجٍ حقيقي من الأزمات والصعاب التي يعيشونها.

3 ـ غياب الحقوق الفردية: نشهد على صعيد الحقوق الفردية الإجتماعية والسياسية والقانونية تماثلا في الظروف والأوضاع المفروضة قسرا على مجمل الجغرافيا السورية، حيث تنعدم حقوق المواطن السوري البسيط غير المؤطر في أي من الفصائل والقوى والمؤسسات التابعة لأيٍّ من الأطراف المسيطرة، سواء المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي، أو بما يخص أبسط الحقوق كالتعليم والطبابة والعمل والسكن، وصولا إلى الحق في الإحتكام إلى قضاء نزيه ومستقل. حيث يتم حكم جميع المناطق السورية وفق منطق القوة على حساب منطق الحق، قوة تفرضها توازنات السيطرة على الأرض، لتتمتع أذرع الأطراف المسيطرة بالخيرات المتوفرة وبحماية قانونية تغضّ النظر عن جميع انتهاكاتها بحق السوريين، لتنهب ثرواتهم الفردية والجماعية علانية من دون حسيب أو رقيب، وتنتهك حرمات السوريين وحقوقهم، كما تكم الأفواه، ويتم أسر أصحاب الرأي بذرائع عديدة. وهناك تقارير دولية عديدة عن حجم الانتهاكات المرتكبة في سورية من جميع الأطراف، وإنْ حافظ نظام الأسد على الحصة الأكبر منها.

4 ـ فقدان الأمل: لا يمكن توقع انعكاساتٍ نفسيةٍ متباينة بين مجمل التجمّعات المناطقية السورية، بحكم التشابه الكبير في الظروف الحياتية بينها، مع عدم التقليل من تأثير التباينات الطفيفة هنا وهناك. وعليه، كان من المنطقي ملاحظة تصاعد مشاعر اليأس وفقدان الأمل بالمستقبل، خصوصا بعد انحسار الفعل السوري، وبالتحديد بعد تقويض الدور الشعبي، وفي أعقاب سقوط أقنعة الأطراف المسيطرة البرّاقة. إذ لم يعد هناك ما يعلق عليه السوريون آمالهم المستقبلية، فقد سقط وهم التعويل على تطابق إرادة القوى الخارجية مع إرادة السوريين، أتراكا كانوا أم نظاما رسميا عربيا أم أميركيين وروسيين وإيرانيين وطبعا أسديين، وهو ما ترافق مع غياب الفعل الشعبي السوري الذي كان حامل الأمل الحقيقي في 2011. بل يذهب بعض السوريين إلى استبعاد أي إمكانية مستقبلية لدور شعبي وطني يوحّد الحشود السورية، وينتصر للحق والأمل والطموح السوري الوطني المشروع الذي عبرت عنه ثورة 2011.

5 ـ شارع مسيس لكنه مقيد: لقد تحوّل الشارع السوري في أعقاب الثورة من شارع ينفر ويهرب من الحديث والمتابعة السياسية إلى نقيضه الكامل، بحكم القضايا والأسئلة السياسية المصيرية التي طرحتها الثورة، وبحكم التبعات الكارثية التي حلّت بالشعب والأرض السورية نتيجة سياسات النظام الدموية والإجرامية من جهة، ونتيجة استباحة الأرض السورية من داعمي النظام والمعارضة من جهة ثانية. من دون أن يترافق ذلك مع تطور مواز على صعيدي الوعي والتنظيم، لدى مختلف شرائح المجتمع السوري، وهو ما قيد وحد من فاعلية الشارع السوري السياسية. أي لم يتم تأطير اهتمام السوريين بالقضايا السياسية بشكل منظم وممنهج، ينمّ عن إنضاج الحوار السياسي بين الفئات الاجتماعية السورية، أو حتى بين النخب الثقافية والسياسية السورية، بقدر ما انحصر الحديث السياسي السوري في أطر ثابتة وجامدة ومكرّرة ذات طابع شعاراتي وإرادي في أغلب الأحيان.

لذا تم تهميش النقاشات الجدّية والفاعلة التي تهدف إلى البحث عن الوسائل والخطوات والبرامج الضرورية لتحقيق أهداف الثورة والسوريين، كما تم إهمال التعمّق في ماهية هذه الأهداف وجذورها. فمما لا خلاف حوله أن العدالة والحرية والمساواة هي إحدى شعارات الثورة السورية وأهدافها، وربما مجمل المجتمع السوري أو غالبيته. ولكن ما معنى ذلك بالتحديد، وعن أي مساواة يبحث الشعب السوري اليوم تحديدا، مساواة في الحقوق الاقتصادية أم السياسية أم الثقافية أم الاجتماعية، أم عن ذلك كله. حيث خدم الهرب من هذه الأسئلة الدقيقة والمحدّدة تعميم رؤى مشوّشة تخلط بين هدف المساواة الشاملة وأحد تجلياته المجتزأة كالشراكة السياسية بين طرفين أو أكثر، كشراكة النظام الحاكم والمعارضة المعترف بها دوليا. وهو ما يهدف إلى فتح باب حكم سورية والسيطرة عليها أمام فئات سياسية جديدة لم يقبل النظام بمنحها أي دور يذكر في حكم (وإدارة) الشؤون السورية سابقا. وهو تبسيط مخلّ ومؤذ، بل وانحراف عن أهداف الثورة والعمل والنضال السياسي الثوري، ساهم في إعاقة طرح البرامج السياسية المتكاملة التي تقدم حلولا اقتصادية وسياسية واجتماعية ودستورية وثقافية تجسّد مفهوم المساواة الشاملة على المستوى الإداري والدستوري والشعبي والحياتي في الوقت نفسه.

كما لم يحظ الشعب السوري بمناخ محلي وإقليمي يتيح له الإنخراط في العمل السياسي بفعل استبداد النظام والمعارضة والقوى المسيطرة في الوقت نفسه. كما تم حرف تجربة السوريين بعد الثورة واحتجازها، بغرض إعاقة تطورها ونموها حتى تنظيميا، بدلا من فتح الباب واسعا أمامها للتطوّر والنمو سياسيا وتنظيميا عبر تأطير الشعارات في برامج ورؤى سياسية متباينة في خطة العمل، ومتّحدة حول أهداف مفصلة وواضحة. وهي حالة معمّمة على جميع التجمّعات السورية، حيث تحظر قوى الأمر الواقع على السوريين أي شكل من العمل السياسي المستقل، لصالح العمل السياسي الترويجي للقوى المسيطرة، وهو ما يعكس تسييس الشارع السوري اليوم، بحكم الظروف التي فرضتها القوى القمعية والقسرية المسيطرة، بالتزامن مع تقييد العمل والنضال السياسي الذي يضمن تحييد السوريين عن الفعل السياسي الجدّي والمنظم.

الخلاصة
لقد فتحت الثورة السورية أبوابا مغلقة عديدة أمام السوريين، بما فيها باب الحلم والأمل بسورية متطورة وحديثة وحرّة، ينعم فيها مواطنوها بالحرية والأمان والمساواة والعدالة من دون تمييز بين أيٍّ من مكوناتها. ولكن السوريين واجهوا صعوبات عديدة في مسار تجسيد الحلم السوري على أرض الواقع، خارجية وداخلية وذاتية، حتى فقدوا ثقتهم بأنفسهم وبإمكانية تجسيد حلمهم المشروع، وهو ما يتطلب إحداث نقلة نوعية حقيقية في التعاطي والنضال السوري، نقلة تستند إلى الإستفادة من أخطاء الماضي وتجاوزها من ناحية، ومن ظروف السوريين الحالية من ناحية ثانية. إذ لن تنجح أي محاولة سورية جدّية اليوم، إذا لم تراع الظروف السورية الحالية، حتى لو تجاوزت جميع الأخطاء السابقة التي كان لها دور فيما نحن فيه اليوم. كما أن ظروف السوريين اليوم معقدة ومتشابكة وحافلة بالتناقضات بين عوامل تفتت المجتمع والجغرافيا السورية وتقسيمهما وعوامل وحدة السوريين وتجمعهم في بوتقة متحدّة حول الهدف النهائي على الرغم من تباين الرؤى فيما بينها، فهل نحسن الخيار والعمل قريبا، ونستعيد ثقة الشارع بقدراته وإمكاناته؟

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى