نبيل الملحم؛ روائي سوري، له انتاج أدبي كثير، هذه الرواية الاولى التي أقرأها له.
انجيل زهرة، رواية تعتمد أسلوب التداعيات الذاتية للراوي البطل يوسف الذي يتحدث بلغة المتكلم عن نفسه وما يعيش.
تبدأ الرواية من يوسف الذي يسكن وسط دمشق، والزمان بعد مضي سنوات على “الاحداث السورية، بعد عام ٢٠١١م”. يوسف يسكن بمفرده في منزل واسع، كل أسباب الحياة المريحة متحققة له، رغم تحدثه عن حياة صعبة هناك في دمشق وريفها، يتحدث عن صراع طال كل الناس، حصد الكثير من الأرواح. يوسف لا يحدد موقفه مما يحصل، ولا يخبرنا بما يحصل في سورية وفي دمشق حوله. يوسف منشغل في ذاته، في بحثه عن حبيبته زهرة، وانه يفتقدها، وأنه قد قتلها. الرواية في صفحاتها الكثيرة التي تصل الى ٣٦٨ص، لا يحضر الشأن العام والمحيط إلا قليلا وعلى استحياء، رغم تصريح يوسف بأنه يعيش وسط مقتلة عظيمة. يوسف مسكونا بهاجسه الشخصي وهلوسته ووحدته و أحلامه وكوابيسه. يوسف ما يفتأ يذكر زهرة التي احبها وخسرها، ويعتقد أنه قتلها. ستتصل بيوسف امرأة اسمها سلمى وتأتي إليه في منزله، وتقرر ان ترعاه وتهتم بشؤونه. تتحول سلمى مع الوقت لمحفّز عند يوسف ليقص عليها حكايته، عمره كيف عاش، وكيف انتهى بمأساة عبر قتل حبيبته زهرة. يوسف يتحدث ويهلوس ويوصل لنا شذرات عن عمره الذي عاشه تباعا. يوسف الآن هو ممثل مسرحي مشهور، لكنه متواري، يستعيد أمجاده المسرحية ذهنيا، مازال يحفظ بعض أدواره التي أداها، عنده الكثير من أدوات وملابس المسرح لكثير من مسرحياته. يوسف الان متخفي، لقد اوحى لنا نحن القراء أنه أصبح مستهدفا للقتل، لم يحدد ممّن ؟!. وان صحف النظام تحدثت عن قتله، وأنها أحالت التهمة على الارهابيين. كان ذلك مقدمة لعيشه في وحدته الاختيارية، في المسرح تعرف على زهرة كانت من جمهوره، تابعت أعماله المسرحية، التقيا وكانت حب عمره. مر يوسف سريعا على طفولته، قرر أن يدرس المسرح، يوسف من بيئة فقيرة، لذلك كان يحتال على حياته ليؤمن مصروفه الشخصي ويكمل دراسته، غادر الى لبنان كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي. وهناك تابع دراسته، كان يوسف منذ شبابه مهجوسا في الجانب الجنسي في حياته، دائما له انثى او عاهرة لممارسة الجنس، يوسف رجل غير مؤمن كما انه ليس ملحد، لنقل أنه بين بين. كثيرا ما يخاطب إلاها ما يحدثه عن واقع الحال على المستوى العام والخاص. لسان حاله يقول: أين الله مما يحصل في الدنيا كلها، وفي سورية خاصة؟. يوسف لا يرهق نفسه بالبحث عن الاجوبة، مهمته العيش واستمراره، كيفما كان الحال. لم يستمر استقرار يوسف في لبنان كثيرا، ينتقل الى القاهرة ملتحقا بمعهد المسرح بها ليتم دراسته. في القاهرة يأوي الى فندق صغير بصحبة مجموعة شبان من بلاد عربية مختلفة، السوري المتدين الذي يتاجر بالملابس النسائية الداخلية بين سورية ومصر، والجزائري والعراقي وغيرهم، اليساريين الكافرين في كل شيء المدمنين على المسكرات وإطلاق الألفاظ النابية وعيش حياة هامشية. كانت مصر السبعينيات على موعد مع أحداث انتفاضتها المشهورة ١٩٧٨م ثورة الخبز في مواجهة سلطة السادات الذاهب إلى (إسرائيل) والساعي للسلام معها عبر معاهدة كامب ديفيد. شارك مع المتظاهرين، وتلقى معهم القنابل المسيلة للدموع التي أطلقها عليهم الأمن المركزي، وكذلك الضرب بالعصا. لم تستمر حياته في مصر غادر الى العراق، لكنه لم يستقر فيها، تلقاه سائق تكسي، تأكد منه انه ليس بعثيا، لان البعثي في العراق هو الحاكم وله كل الحقوق، غير البعثي هامشي ومهمل، سائق التكسي اكرمه بالسكر معه وإطعامه و من ثم اوصله الى وسائل النقل المؤدية إلى الشام، لا عيش لك هنا، بلدك اولى بك. في وسيلة النقل المتجهة الى سورية تعرف يوسف على السيدة “بندر” وأولادها الخمسة الصغار. ستعرف حكايته ويعرف حكايتها؛ كانت في العراق تبحث عن زوج أحد اولادها لتحصل منه على نفقته، لكنه لم يعترف بالولد ولم يعطها شيئا. بندر امرأة لديها منزل في منطقة نهر عيشة تؤجر غرفه مفروشة، وهي عاهرة، تنام مع زبائن السكن عندها ومع كل من يدفع، اولادها لا أب واحد لهم، كانت قد تزوجت من رجل عجوز، مات دون أن تلد منه، أهله طاردوها من أجل ميراثه، ساعدها محامي عبر الزنى معه على ان تنجب طفلا يحمي إرثها من زوجها؛ زوجها الذي لم يقربها. ومنذ ذلك الوقت أصبحت تبيع جسدها وتؤجر بيتها. البيت في منطقة شعبية في ضواحي دمشق، في نهر عيشة الحي الفقير العشوائي، هنا كان سكن يوسف حين عودته الى دمشق وبداية حياته مجددا فيها. استمر يوسف في السعي ليكون ممثلا مسرحيا كبيرا ومشهورا، وهكذا حصل. في المسرح سيتعرف على حبيبته زهرة، التي يعاشرها جنسيا كما عاشر غيرها، يوسف لا يؤمن بالخصوصية الجنسية، لا للمرأة ولا للرجل، ويرى الجنس محرك وجودي للإنسان وغيره من الكائنات. مع ذلك سيصطدم ببلسم التي يلقبها الخنزيرة ويلقب زوجها الخنزير، تلك المرأة العاهرة التي تدير مع زوجها شبكة دعارة واسعة، وهي فوق ذلك تنظّر لذلك وتبشّر به وتدعو له، تحت دعوى الحرية الشخصية والجنسية، تعمل جاهدة لجذب الشباب من الجنسين لشبكتها، تقنع الكل بفائدة ان يعيشوا الانفلاش والانفلات الجنسي، وحتى الجنس الجماعي. الخنزيرة وزوجها مرتبطان بالأمن السوري وهم عينهم المراقبة وآذانهم المستمعة ووسيلة ليدهم الباطشة. لقد تم استخدام الخنزيرة وزوجها في ملاحقة شباب الحراك الثوري السوري الاخير بعد ٢٠١١م، شاركوا لقاءاتهم وتحضيراتهم للتظاهر وادعوا مساندتهم لهم، كانوا عين النظام الذي استطاع عبرها الوصول الى الكثير من الناشطين الثوريين واعتقالهم، واختفائهم من الوجود ربما الى الابد. كان لبلسم الخنزيرة دور في جر زهرة الى هذا المستوى من حضيض الجنس وتهتكه، استخدمتها في حفلات الجنس الجماعي، لقد كانت وراء ضياع زهرة ودفع يوسف لان يقتلها كما كان يدّعي ويتصور. يمر يوسف في سرده عن سورية في السبعينيات والثمانينات، على واقع الصراع بين الإخوان المسلمين ونظام الأسد، يمر على تقاسم السلطة في سورية وقتها بين حافظ الاسد واخيه رفعت الأسد، وكيف حسم الصراع بينهما لصالح حافظ الأسد، يوضح يوسف عبر الايحاء بأن سورية بلد الأسد الحاكم الأوحد الذي يكاد يصنع من نفسه إلاها عليهم. يوسف يعيش منعزلا منفردا مع هواجسه، لغته المتهتكة وألفاظه السوقية، توحي بما هو واصل له من انهيار نفسي وواقعي، منعزل عن ما يحصل في سورية من كوارث ومآسي، يسمع صوت تبادل إطلاق النار، صوت رمايات القذائف المدفعية، يعايش الجثث التي ملأت الشوارع، يعيش ذلك كخلفية مسكوت عنها وغير مهمة. هاجسه الأكبر معاناته من قتله لحبيبته زهراء، احلامه الجنسية وواقع يعيشه شعوريا مع تاريخ، الجنس فيه هو الحاضر الأكبر، ولكن بشكل مزيف وتعويضي نفسي. كل ذلك يعيشه يوسف إلى ان تحضر سلمى التي حولت نفسها لخادم امين ومعالج نفسي، ومحفز على التحدث لعل الحديث يفرغ شحنة توتريوسف لعله يعود إنسانا يعيش داخل العالم وليس على هامشه. تؤكد له دوما ان زهرة لم تقتل، وهي في محنة ارتباطها ببلسم الخنزيرة وشبكتها، وأنه بدل أن يرثيها عليه أن يجدها وينقذها مما هي فيه. هذه كانت توصية سلمى ليوسف عبر رسائل على جواله تخبره فيها أنها أم زهرة، وان زهرة حيّة وتحتاجه، وانه ان كان يحبها فعلا فعليه أن يجدها وينقذها من الجحيم التي هي فيه. وان كل أوهامه عن قتله لها عبر عقرب دسّ في سريرها كان مجرد وهم، يجب ان يصحى منه.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول: نحن امام رواية مختلفة، بمعنى أنها صنعت حدثا جزئيا بسيطا في الحياة وحولته ليكون مركز متابعتنا عبر صفحات كثيرة لرواية طويلة والفحوى يوسف وهواجسه وحبيته زهرة وقتلها وفقدانها، حلقة مغلقة مملة احيانا، انها ذات حركة النملة في قعر فنجان دون مخرج. بينما الحياة في خارج الحدث الروائي المباشر تضج بالحكاية التاريخية لما عاشه السوري من ظلم النظام السوري المستبد القمعي الذي ذبح شعبه عبر عقود، وختمها في السنوات الاخيرة بأسوأ كارثة انسانية، مليون قتيل ومثلهم مصابين ومعاقين اكثر من نصف الشعب السوري مشرد في كل بلاد العالم، سوريا المدمرة والمستعمرة والمتحولة لكانتونات، سورية التي تغادر الوطن والمواطنة لتصبح المقبرة والطائفة والمذهب والتجييش الأعمى والمقتلة اليومية. هذا الحدث الذي كنا ننتظر أن يمر الكاتب عليه. مع ذلك هل يحق للروائي ما لا يحق لغيره ؟!!، نعم هذا مأخذنا على الرواية. إن الأعمال الأدبية كما الرسم والتمثيل والمسرح والسينما هي شواهد التاريخ عن حقائق بديهية اليوم ستكون في المستقبل الجواب الوحيد عن سؤال: ماذا حصل في سورية في العقد الثاني من القرن العشرين. عدم الجواب عن السؤال عبر الأدب وغيره والجواب الموارب أو الجواب خارج الموضوع، خيانة للأدب وللحقيقة وللشعب السوري في محنته.
الشعب الذي خرج مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. والنظام المستبد المجرم الذي استعان بالعالم كله ليعيد الشعب لعبيد في مزرعته، او قتلى في الشوارع او تحت أنقاض الابنية أو مشردين في جميع انحاء العالم. والعالم كله تآمر على حصول ما حصل. والمأساة مستمرة.