جاء رئيس الحرس وبلَّغ الدكتور نور الدين تهيئة نفسه للنزول إلى الاستراحة (استراحة وزارة الدفاع في حي القصور)، ورغب الدكتور أن يسمع وجهة نظرنا قبل اتخاذ قراره، فشجعناه بأكثريتنا على القبول لسببين: الأول أن سوء حالته الصحية تقتضي تغيير أجواء السجن، والثاني محاولة معرفة النوايا تجاهنا، لأن ما كنا نتساءل عنه بين بعضنا، ليس عن سبب اعتقالنا، بل إلى متى سيدوم هذا الاعتقال؟.
بقي الدكتور نور الدين في الاستراحة لمدة تقارب ستة أشهر، كان يتردد عليه أثناءها العميد محمد الخولي، رئيس مخابرات القوى الجوية، الذي أبلغه بأن إطلاقنا سيتم قريباً، ولكن الرئيس (حافظ الأسد) له رجاء واحد، وهو أن لا تعملوا في السياسة، ومن يرغب فيها فالحزب مفتوح أمامه، كما أبلغه بأن الظروف الحياتية الجيدة والاحترام سيتوفران لكم جميعاً، وأثناء تلك الفترة تسربت أخبار نشرتها بعض الصحف في الخليج عن اتخاذ قرار بإطلاقنا في وقت قريب، ورافقتها شائعات حول مشاركتنا (قيادة الحزب) في السلطة.
وفي زيارة الخولي الأخيرة للدكتور الأتاسي، طرح أمامه الظروف الصعبة التي يمر بها النظام في مواجهته لتنظيم لإخوان المسلمين، واعتقال قادة وبعض قواعد الحزب الشيوعي “المكتب السياسي” أي رياض الترك ورفاقه، والحصار العربي المفروض على سورية الخ….، وأن الرئيس يحتاج إلى دعم ومؤازرة، وتمنى عليه لو يصرح للصحافة، بما يُفهم منه أنه دعم للرئيس، وكان موقف الدكتور حاسماً في تلبية هذا الطلب، وختم كلامه للخولي قائلاً: وفي كل الأحوال فإن مثل هذا الطلب لا يُطلب من معتقل سياسي إلاّ بعد إطلاقه. وعلى إثر هذا الحديث، تمّ تبليغ الدكتور بأنه سيُعاد إلى المعتقل خلال وقت لا يتجاوز الساعتين.
عاد الدكتور نور الدين إلى سجن المزة، وبعده وافق عدد قليلٌ من أعضاء القيادة النزول إلى الاستراحة، وكان النزول افرادياً وبالتتالي، وتراوحت مدة الإقامة لكل واحد ما بين الخمسة عشر يوماً والخمسة والأربعين يوماً.
لقد سبب النزول إلى الاستراحة إزعاجاً لسكان الحي، لأن عناصر الأمن قاموا بإحصاء أسماء الأسر القاطنة في المنازل المطلة على الاستراحة والمنازل القريبة منها وتدقيق هوياتهم.
ومما لفت انتباه الذين نزلوا إلى الاستراحة من أعضاء القيادة، دهشة الضباط المسؤولين عن الحراسة، حين علموا أنّ أي واحد من أعضاء القيادة المعتقلين لا يملك سيارة، ولم يكن تحت تصرفه قبل الاعتقال إلا سيارة واحدة فقط، وكذلك لا يملك أي واحد منهم منزلاً لسكنه، باستثناء من اشترى منزلاً بعد أن استلم سلفة سكن من صندوق السكن العسكري، أو من صندوق السكن في نقابته، وعددهم لا يتجاوز الخمسة ، وكانت تزداد دهشتهم حين علموا أن الجميع كانوا يدفعون أجرة مساكنهم من رواتبهم، وكان راتب عضو القيادة هو الراتب نفسه في وظيفته، ومن لم يكن موظفاً يُحدَد راتبه على أساس شهادته مع إضافة سنوات حصوله عليها، وبقيت الحال هكذا إلى منتصف العام 1969، إذْ حددت القيادة راتب رئيس الدولة بـ 1500 ل. س، بدلاً من 2500ل.س كما ينصُّ عليه القانون، وراتب كل عضو من أعضائها بما يساوي راتب الوزير البعثي، أي 1000 ل. س، ويتضمن الراتب أجرة السكن للجميع، بمن فيهم رئيس الدولة (نور الدين الأتاسي) الذي لم يقبل السكن في قصر الروضة أو في منزل على حساب الدولة، علماً أن راتب الوزير غير البعثي كان 1600 ل س تقريباً، والواجب يحتِّم عليَّ أن أذكر بأن عضو القيادة فوزي رضا اعتذر عن استلام أي راتبٍ أو تعويض من صندوق الحزب موضحاً أن دخله من الصيدلية التي يملكها في مدينته دير الزور يكفي لتسديد نفقات إقامته في دمشق.
كانت العودة من الاستراحة إلى السجن، تولِّد أسى كبيراً في نفوس أهالي المعتقل، وخاصة عند الأولاد الذين تركهم والدهم أطفالاً، كما أنَّ بعضهم كانوا قد ولدوا بعد اعتقال آبائهم بأشهر قليلة، وخلال هذه المدة القصيرة من العيش المشترك شعروا بأن لهم آباء، وشملوا برعايتهم، وتعودوا عليهم، وفجأة يخُتطفون من جديد ويُبعدون عنهم، ويعودون ثانية إلى الزيارة الشهرية وإلى المعاناة التي يلاقونها للحصول على بطاقة الزيارة والوصول إلى السجن.
بعد أن أُصيب بعض منّا بمرض عضال أو بمرض خبيث، وأكدت التقارير الطبية، بما يشبه اليقين، أن حياتهم لن تطول، تم الإفراج عنهم، وكان أولهم الدكتور يوسف زعين الذي أُصيب بورم أثَّر على عملية البلع، فنقل إلى مستشفى حرستا العسكري للمعالجة، وأجمعت تقارير الأطباء السوريين على أن حالته ميؤوس منها، فصدرت التعليمات بنقله إلى لندن للمعالجة، وقبل سفره طلب أن يُسمح له الإقامة في منزله بدمشق ليومين أو ثلاثة، وهي إقامة وداع لأهله ووطنه، وبعدها سافر إلى لندن ومن حسن حظه وبفضل التقدم العلمي والصدفة اللتين لعبتا دورهما نجحت العملية التي أُجريت له وأنقذت حياته، ولكنه ما زال يعيش في المنافي.
لم يتكرر هذا “الخطأ” مع الآخرين، حسب المعلومات التي وصلت إلينا عن لسان الرئيس (حافظ الأسد) ونقلا عن زواره من كبار السياسيين من الأقطار العربية الذين كانوا يتمنون منه إطلاقنا من المعتقل، لذا فإن المرضى الآخرين “نور الدين الأتاسي ومحمد رباح الطويل” قد فارقوا الحياة بعد أشهر قليلة من إطلاقهم.
تعرض الدكتور نور الدين مرتين لجلطة قلبية، وبعد إصابته في المرة الأولى، ورغم الإلحاح بإحضار طبيب مختص أو نقله إلى مستشفى لمعالجته، لم يلقَ هذا الإلحاح أية استجابة، أما الإصابة الثانية فكانت قوية جداً، وكانت آلامها شديدة، حتى أنه لم يستطع أن يتحملها وهو المعروف عنه بشدة البأس، ووجد الطبيب أن حالته خطيرة وتستدعي نقله إلى مستشفى فوراً، وبعد إبلاغه بورود الموافقة على ذلك، بذلنا كل جهودنا حتى تغلبنا على رفضه الانتقال إلى المستشفى، ويبدو أنه قدر خطورة وضعه وأدرك مآله، لذا فإنه حين وُضع على النقالة في طريقه إلى سيارة الإسعاف، واصطحبناه حتى الباب الرئيسي للغرف( مكان اعتقالنا في سجن المزة)، ودَّعنا قائلا: سامحوني، قد لا نلتقي مرة أخرى، وفعلا لم نلتق.
بقي الدكتور نور الدين معتقلاً في مستشفى تشرين العسكري حوالي الأربعة أشهر، وأبلغ الأطباء الجهة المسؤولة بأنه مصاب، إضافة إلى الجلطة القلبية، بورم خبيث في المري، ولم يتلق أي علاج لمكافحته، حتى انتشر ووصل إلى الكبد، وهو في هذه الحالة الميؤوس من معالجتها، تقرر إطلاقه، وحاول بعدها، دون جدوى، الحصول على جواز للسفر إلى الخارج للمعالجة، ولما أصبح الأمر مؤكداً بأن خطأ الدكتور يوسف لن يتكرر، أُرسِل إلى المستشفى الأمريكي في باريس ليفارق الحياة بعد أسبوع من دخوله.
المصدر: صفحة نصر شمالي