بداية مازال عبد الناصر يمثل حالة استقطاب سياسي، مع وضد رغم مضي خمسين عاما على وفاته، وهذا يعبر وجود حالة استعصاء فكري وسياسي عند الطبقة السياسية العربية، التي عايشت التجربة أو تشربتها بعد وفاته بفترة قريبة، وأهم ميزات هذه المواقف أنها تبدأ بالموقف النفسي والفكري المسبق، مع عبد الناصر أو ضده، وهذا ضد المنهج العلمي الذي يعني دراسة الظاهرة التاريخية ضمن ظروفها الدولية والذاتية وتطوراتها بكل التفاصيل، وتتطلب وضع مسافة بين ذات الباحث وبين موضوعه، وأن يقدم موقفه مدعوما بالدلائل الملتزمة بالحالة دون اقتطاع أو انتقائية او تكفير او عبادة لعبد الناصر، في هذا السياق.
لذلك لن ينتهي هذا الاستقطاب إلا إذا تمت دراسة عصر عبد الناصر وتجربته علميا بعقلية نقدية تفاعلية عينها على معرفة الحقائق، والاستفادة منها لصناعة المستقبل.
أقول ومن البداية أن هذا النص لمحمد علاء الدين له موقف مسبق سلبي من عبد الناصر وتجربته، وإن تغطى بأنه يطرح حقائق ووقائع، خارجة بالطبع عن سياقها.
عند الدخول في النص؛ نراه يطرح مقولات ذات طابع اطلاقي: مثلا هل انحسرت القومية العربية بعد الانفصال؟!، وكأن القومية العربية عبارة عن موضة انتهى وقتها، وليست تعبيرا عن حقيقة الهوية العربية الجامعة للأمة العربية والتي تعني أننا ككل الأمم يجب أن نتوحد لنتقدم، وهذه سمة العصر الحديث المسمى عصر القوميات، منذ مئات السنين.
كما يتحدث الكاتب عن النزعة التسلطية العسكرية عند عبد الناصر والتي كانت وسيلته للوصول للسلطة ومن ثم استبداده؟ واستعان بالمقارنة مع تجربة الشيشكلي في سورية وأن عبد الناصر اعتبر ذلك نموذجه. وأن عبد الناصر كان ممتلئا بحلم المخلّص، وأنه تورط بالبعد العروبي مع سورية وفي اليمن والجزائر.. الخ
في الرد نقول: إن النظر الى عبد الناصر وتجربته دون بعدها الداخلي والدولي والإقليمي المباشر، هو تعسف وظلم وأسلوب غير علمي فاشل.
مصر كانت مستعمرة من الانكليز، وبالمناسبة ثورة عبد الناصر هي من حررتها، وسورية كانت قد استقلت قبل الوحدة مع مصر ب١٢ عامًا، وكثير من الدول العربية مستعمرة ونموذجها الجزائر، التي ساعد عبد الناصر على تحريرها. كما دعم الثورة اليمنية والحرب ضد الانكليز في اليمن الجنوبي. وأن الدول الاقليمية كانت حديثة الولادة، سورية ولبنان اولاد المستعمر الفرنسي بعد الاحتلال في بدايات العقد الثالث للقرن العشرين، والوجدان الشعبي العربي ممتلئ ببعديه الوجوديين كهوية، العروبة والاسلام، وفوق ذلك كانت مصر وسورية وكل الدول العربية تحت هيمنة الغرب وأن الانقلابات السورية الثلاثة التي ذكرها كلها كانت من فعل الاستخبارات الغربية، ولنعد إلى باتريك سيل في “الصراع على سورية”، عبد الناصر وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الغرب المستعمر في مصر وفي سورية حلف بغداد، وأما الوحدة المتعجلة التي تحدث عنها الكاتب فإنه كلام غير علمي ولن ازيد، كل الشعب السوري بقواه السياسية والشعبية والحزبية والجيش ذهب لعبد الناصر من اجل الوحدة، ماذا يريد الكاتب شرعية أكثر من ذلك، أما الانفصال فسببه أن القوى المتضررة الغربية عملت لصناعة الانفصال وأن الشعب السوري مازال للآن يحنّ لتلك الوحدة ويتمنى عودتها. هل كانت بلا عيوب؟ بالطبع كان لها عيوب ككل نظام سياسي لم ينضج بتجربته الديمقراطية.
وعند الحديث عن الديمقراطية سأتوقف قليلا. لقد كان عبد الناصر ابنًا لزمان كانت الثورات التي سبقت ثورته، الثورة البلشفية مثلا، تعتمد على سلطة مطلقة لتنفيذ مخططها وأهدافها، وكانت فكرة التجربة والخطأ التي اعتمدها عبد الناصر هي التي أكدت له في النهاية أن الشعب هو المرجع والديمقراطية هي الوسيلة وهذا ما ثبّته في بيان ٣٠ مارس بعد هزيمة ١٩٦٧م، وهناك سبب آخر كانت الديمقراطيات العربية مثل مصر تحت سيطرة المستعمر أو الدول الوليدة، ديمقراطيات تحت هيمنة الغرب وتخدم طبقة الحكم، لذلك كانت ثورة عبد الناصر اساسا ثورة تحرر من المستعمر وتحرير الناس من عبودية مقنّعة، وكان مطلبه الثاني العدالة، وعندما اكتملت تجربته نضجا جمع بين الاشتراكية والديمقراطية ، وأن قطار التقدم لا يسير من غيرهما، وذلك عبر القوى السياسية الحية أصحاب المصلحة.
لكن عبد الناصر انهزم عندما سقطت الوحدة وعندما حصلت هزيمة حزيران، ورحل الى جوار ربه قبل أن ينتصر بأي من معاركه؟ هكذا قال الكاتب.
نعم كان عبد الناصر وحده كقائد لدولة وليدة في مواجهة الغرب والكيان الصهيوني، الم يواجهوا تأميم قناة السويس بالعدوان الثلاثي وعبد الناصر أضعف من أن يرد عسكريا، لا يوجد معه الا إرادة المواجهة والشعب، ولولا تدخل امريكا وروسيا لما تحول التأميم الى واقع وانتصار، كذلك إسقاط الوحدة المصرية السورية، حصل بفعل قوى خارجية، وإن كان هناك اخطاء في الوحدة ، فهي اقل بكثير من ان تؤدي لإسقاطها، وكذلك مساعدته للدول المستعمرة في أفريقيا وآسيا للتخلص من الاستعمار، لأنه أدرك أنهم يحاربوه كلهم، لذلك قرر أن يواجههم حيث يستطيع.
هل كان عليه أن ينكفئ؟
ما عاشه عبد الناصر انه أصبح مستهدف شخصيا وكصاحب مشروع قومي تحرري اشتراكي. لذلك عملوا على هزيمته في كل مكان، وهذا ليس عيبا فيه، فالصراع له شروطه وأدواته، ولم يكن عبد الناصر يمتلك القوة والسلاح ليواجه العالم كله، وعندما ساعده السوفييت بالسلاح استطاع أن يصنع معجزة انتصار تشرين ١٩٧٣ رغم أنه توفي قبل سنوات.
ماذا عن الدكتاتوريين الذين تأثروا بفعل عبد الناصر وقاموا بانقلاباتهم العسكرية، ووصلوا الى السلطات، وتحولوا إلى سلطات استبدادية ضد شعوبها.
لنفند:
انقلاب آذار في سورية ١٩٦٣م وبعده بقليل في العراق ادّعى أنه يريد التوحد مع عبد الناصر، وبعد ذلك تبين أنهم يعتبرونه ندا، وحاربوه سرا وعلنا، وكانوا سببا بالتورط في حرب حزيران، وللتاريخ نقول أن عبد الناصر تبرأ من حكم البعث، في حياته وعلنا. أما القذافي والنميري والثورة اليمنية وحتى ثورة الجزائر المنتصرة وانقلاب بومدين على بن بلّه، فقد دخلوا كلهم في لعبة السلطة الاستبدادية التي تستبيح البلاد والعباد وظهر ذلك بعد وفاة عبد الناصر بسنوات طويلة، وليس من العدالة والعلمية اتهامه بما فعل الدكتاتوريين بعده.
عبد الناصر وحب الزعامة والهروب من ازماته الداخلية…؟!!
لا أعلم عن ماذا يتحدث الكاتب فما حصّله الشعب المصري في سنوات حكم عبد الناصر في التوزيع العادل للملكية والتعليم والانتصار لأغلبية الشعب مازال حاضرا للآن.
إن أي نظرة لعبد الناصر دون التركيز على الدور الغربي ضد مصر والعروبة ومصالح شعوبنا، ودعمها المطلق للكيان الصهيوني والدول العربية الاستبدادية التابعة للغرب عدوة شعوبها، وأن الحرب عليه سابقا والآن هي لإسقاطه كنموذج مواجه للمشروع الغربي ولوجود الكيان الصهيوني الغاصب.
نحن القوميون الديمقراطيون بأمس الحاجة لقراءة تجربة عبد الناصر بعقلية نقدية للتعلم منها والبناء على ذلك حسب مقولات ماذا تبقى من عبد الناصر والناصرية لنا وللمستقبل؟
أخيرا. إن الكثير من الحشو في النص لم يدعم مقولاته بأي دليل.
ونحن نقول إن عبد الناصر كان ابن زمانه ومكانه وعصره، انتصر لقضايا الشعب بالحرية والعدالة والحياة الافضل، أعاد للشعب الشعور بالكرامة، انتصر في مواقع وانهزم في اخرى، لكنه لم يخن مبادئه في أي وقت، لقد تعلم من تجربته دائما وقرر حل الأخطاء الاستراتيجية في تجربته، خاصة غياب الديمقراطية التي تعني الربط الصحيح بين السلطة السياسية والشعب الذي يختارها ويسقطها محققا بذلك المصالح كما يختارها ويقررها الشعب نفسه.
ملاحظة: هناك مفكرين وسياسيين كتبوا عن عبد الناصر وتجربته وفندوها ونحن بحاجة لنعود لتلك الكتابات.
١ – حرب الثلاثين عاما بمجلداته الاربعة لمحمد حسنين هيكل بغض النظر عن التباس موقفه والموقف منه.
٢- كتابات د.عصمت سيف الدولة بدء من أسس الاشتراكية العربية ونظرية الثورة العربية وهل كان عبد الناصر دكتاتورا.. الخ.
٣- كثير من الندوات التي طالت التجربة الناصرية لعدد كبير من المفكرين العرب.
٤- كثير من الكتب التي كتبت تفصيليا عن تجربة عبد الناصر، عادل حسين في الاقتصاد، وكتاب عن التنظيم الطليعي وغيره كثير…