هناك من يزعم أن جمال عبد الناصر هو من جلب الانقلابات العسكرية وحكم العسكر في الوطن العربي بل يشطح البعض لاتهامه بتخطيط وتنفيذ كل تلك الانقلابات السابقة واللاحقة.
أنا شخصيًا لا أعتبر هذا اتهامًا أو هجومًا بل اعتبره مديحًا يعطي الرجل أكثر من حجمه الحقيقي وأكثر من تأثيره الفعلي في عصره وأوانه.
ولكن هذ الاتهامات يمكن تفهمها من باب المبالغة السياسية الجانحة الموجهة بفعل أيدولوجيات معادية لتوجهاته وفكره ومشروعه.
أما إذا أردنا مناقشة الموضوع من حيث المنطق السياسي العقلاني وضمن الإطار التاريخي
فإنه يمكننا القول: إن ظاهرة عبد الناصر وخروجه من صفوف الجيش المصري لتصدر المشهد السياسي في الخمسينات كانت طبيعية في سياق عصرها وزمانها حيث أنها ظاهرة اجتاحت العالم الثالث بمعظمه بعد الحرب العالمية الثانية وتحرر دوله امتدت من أندونيسيا شرقًا إلى الأرجنتين غربًا مرورًا في باكستان وتركيا ودول أفريقيا وأميركا الوسطى واللاتينية لأسباب كثيرة تتعلق بتشكل هالة سحرية حول الجيوش والعسكر نتيجة الحرب الطويلة التي عاشها العالم. مع تشكل حالة معاكسة اتجاه السياسيين والأحزاب التقليدية اتسمت بالسلبية المفرطة من المماطلة والأداء البطيء وعدم الانجاز.
كذلك فإن استعجال هذه الدول ‘النامية’ في محاولة ردم الهوة بينها وبين الدول المستعمرة. وفي هذا السباق المحموم تساقطت وترنحت المؤسسات والأحزاب والجمعيات الضعيفة في هذه الدول الحديثة التكوين بينما كانت المؤسسة العسكرية متماسكة وقوية بحكم أنظمتها الصارمة. مما جعلها اللاعب الأساسي في المسرح السياسي على طول خشبة المسرح وفي كل الفصول على امتداد العالم الثالث.
وفي السياق التاريخي لتلك المرحلة أيضًا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا أن مسألة الحريات العامة والديمقراطية لم تكن مطروحة بقوة مثل قضايا أخرى كانت تشغل الرأي العام مثل انجاز التحرر التام والتنمية والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروات الوطنية وإنهاء احتكار الشركات الاستعمارية لها وفي الوطن العربي يضاف إلى ذلك موضوع بلغ ذروة الأهمية وقتها وهو الوحدة العربية.
هذه القضايا التي تبناها جمال عبد الناصر وأخلص لها جعلته ممثلًا حقيقيًا لنبض الجماهير وأحلامها في مرحلة تاريخية محددة. كانت بمثابة عقد توافقي رضيت به الجماهير بالحكم الفردي العسكري في سبيل الإنجاز في مرحلة محددة في سياق تاريخي محدد لم يكن خاصًا بمصر وحدها أو الأمة العربية أو عبد الناصر. بل في جزء كبير من العالم شمل بعض دول أوربا أيضًا في تلك المرحلة.
لكن فيما بعد وأيضًا في سياق التطور التاريخي الذي هو سمة الحياة البشرية والحركة السياسية منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأت هذه الظاهرة بالانحسار. واستطاعت معظم دول العالم الاستغناء عنها والعودة إلى القناعة بالديمقراطية وإعلاء قيم الحريات الفردية والجماعية لتصل بها إلى مستوى القداسة فلم يعد مقبولًا حكم الفرد أو النخب العسكرية. وقد انعكست الصورة بتشكل صورة سلبية شديدة القتامة حول الجيوش والأمن والعسكر مقابل الهالة السحرية لمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والتجمعات السياسية مهما كانت اختلافاتها وتنوعها.
لقد تحررت معظم أمم العالم من ظاهرة العسكرة وحكم الفرد أو النخب العسكرية تباعًا عبر العقود الماضية وانتقلت إلى الحياة المدنية والديمقراطية تباعًا. ولكن لماذا مازالت أمتنا العربية خارج هذا السياق التاريخي الذي يفرض نفسه على العالم؟!
وهل يمكن لتحميل وزر ذلك لعبد الناصر بعد نصف قرن من رحيله أن يكون مقبولًا من الناحية العقلية والمنطقية أم أنه مجرد هروب من مواجهة الحقيقة كي نبرأ الأحياء؟! ولدفن الأسئلة الحقيقية في القبور.
باختصار لقد كان جمال عبد الناصر ممثلًا لمرحلة تاريخية وكان ضمن سياقها ومعطياتها ممثلًا حقيقيًا للجماهير وأحلامها. وهذا ما أعطاه الشرعية والقيمة التاريخية، وليس مفيدًا في شيء الآن مدحه بلا طائل. أو إلقاء التهم والهجوم عليه بلا ضوابط.
وأخشى ما أخشى أن يكون كلا الطرفين يهرب إلى الأمام أو الخلف للابتعاد عن مواجهة أسئلة الحاضر الطاغية وحال الأمة المتردية وبالتخلي عن المسؤولية بإلقاء التهم على الراحلين لدفن قضايانا المعاصرة في القبور.
المصدر: موقع (الحرية أولًا)