لم تنقطع محاولات روسيا مناكفة الأميركيين في منطقة شرق نهر الفرات السورية، وهي المنطقة الأكثر أهمية في الجغرافيا السورية، والتي تحوّل جزء كبير منها إلى مجال حيوي لواشنطن، بينما تبحث موسكو عن دور أكثر فعالية من خلال الانفتاح أخيراً على تشكيل سياسي جديد، يضم كيانات عربية وكردية وآشورية، تناور سياسياً ما بين الروس والأميركيين للعب دور في تحديد مصير الشمال الشرقي من سورية.
والتقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أول من أمس الجمعة، وفداً من “جبهة السلام والحرية” برئاسة رئيس “تيار الغد” أحمد الجربا. واستعرض الطرفان تطورات الأوضاع في سورية، وفق بيان من وزارة الخارجية الروسية، قالت فيه إن لافروف أكد التزام بلاده بدعم سيادة سورية ووحدة أراضيها. وأشارت الوزارة إلى أن الجربا وغيره من قيادات الجبهة أجروا في موسكو أيضاً مشاورات مفصّلة مع نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا ميخائيل بوغدانوف.
وقال عضو المكتب التنفيذي في “المنظمة الآثورية الديمقراطية” (وهي جزء من “جبهة السلام والحرية”)، كبريل موشي، لـ”العربي الجديد”، إنّ الزيارة جاءت بناءً على طلب روسي، مشيراً إلى أن لافروف أكد أن رؤية الجبهة “متقدمة”، وتمنّى أن تقدّم إسهاماً للحل في سورية. وأضاف أنّ الجبهة أكّدت أنها جزء من المعارضة السورية، وتضم قوى تستمد شرعيتها من وجودها على الأرض، وأن عملها يأتي في سياق التنسيق والتكامل مع قوى المعارضة، ولا يتناقض مع عضوية مكوناتها ضمن أطر المعارضة السورية. كذلك أشار إلى أنّ الوفد طالب الحكومة الروسية بممارسة دور فاعل في سبيل إطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المخطوفين والمغيبين لدى النظام وبقية أطراف الصراع، وضمان عودة طوعية وكريمة للاجئين السوريين إلى مناطقهم. كما عبّر عن رفضه عمليات التغيير الديمغرافي في كل المناطق السورية.
من جهته، ذكر القيادي في “المجلس الوطني الكردي” كاميران حاجو أن وزير الخارجية الروسي أبدى قلقه لوفد الجبهة من تحركات انفصالية في شمال شرقي سورية، مشيراً إلى أن الوفد أكد أنه لا توجد تحركات من هذا القبيل من قبل المجلس، بل مطلب واضح بالفدرالية وضمان حقوق كل المكونات في سورية موحدة، والوصول إلى حل سياسي للأزمة وفق القرارات الدولية.
وفي أواخر يوليو/ تموز الماضي، شكّلت أربعة كيانات سورية معارضة في منطقة شرق نهر الفرات، هي “المجلس الوطني الكردي”، و”تيار الغد السوري”، و”المنظمة الآثورية الديمقراطية”، و”المجلس العربي في الجزيرة والفرات”، تحالفاً سياسياً تحت اسم “جبهة السلام والحرية”. وفي بيان إعلان التأسيس أكدت هذه الكيانات أن الهدف من تأسيس الجبهة “تنسيق الجهود من أجل إيجاد حل سياسي في سورية، لإنقاذ البلاد من الهوّة السحيقة التي تنزلق إليها، بسبب التحديات والأخطار الوجودية التي تحدق بها، مع تعنّت النظام واعتماده الحلّ الأمني والعسكري”، وفق البيان. وتضم الجبهة كيانين ينتميان إلى الائتلاف الوطني السوري، أبرز المؤسسات السياسية في المعارضة، وهما “المجلس الوطني الكردي”، و”المنظمة الآثورية”، بينما يتزعم الجربا عملياً “تيار الغد”، و”المجلس العربي في الجزيرة والفرات”، وهما بلا فعالية سياسية على أرض الواقع في منطقة شرق نهر الفرات.
ومن الواضح أن موسكو تحاول استمالة هذا التحالف السياسي الجديد في سياق مناكفة واشنطن في منطقة شرق الفرات التي باتت المجال الحيوي الأرحب للأميركيين في سورية. ولطالما حاول الروس الوصول إلى الحدود السورية العراقية في أقصى الشمال الشرقي، لكن هذه المحاولات اصطدمت برفض أميركي وصل إلى حد إيقاف دوريات عسكرية روسية بالقوة. وفتح تفاهم عسكري بين وزارة الدفاع الروسية و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) الباب لموسكو، أواخر العام الماضي، للدخول إلى منطقة شرق نهر الفرات. لكن الوجود الروسي انحصر في منطقة عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي وفي ريف الرقة الشمالي بشكل محدود، وفي مدينة القامشلي حيث أنشأت قاعدة عسكرية في مطارها العسكري. وتسيّر روسيا دوريات مشتركة مع تركيا على جانب من الحدود السورية التركية شرق نهر الفرات، والبالغة نحو 440 كيلومتراً. لكن لا وجود روسياً في ريفي الحسكة الشرقي والجنوبي حيث الثروة النفطية الهائلة التي وضعت الولايات المتحدة الأميركية يدها عليها بالاشتراك مع “قسد”، التي لا تزال الحليف الأبرز للتحالف الدولي على الرغم من التفاهم العسكري مع الجانب الروسي الذي لا يلقى قبولاً شعبياً لدى سكان منطقة شرق نهر الفرات نتيجة دعمه اللامحدود للنظام السوري.
ورأى المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، في حديث مع “العربي الجديد”، أن التنافس يحتدم بين الروس والأميركيين في منطقة شرق نهر الفرات، مضيفاً: الروس والأميركيون يدركون أهمية سورية التي تشكّل معبراً مثالياً لشبكات نقل النفط والغاز من منطقة الخليج، ولا شك في أن الشمال الشرقي من سورية محطة مهمة لهذه الشبكات التي من الممكن أن تُنشأ مستقبلاً. ووضع عبد الواحد انفتاح الروس على الكيانات السياسية في شرق الفرات في هذا السياق، إضافة إلى كون هذا الانفتاح محاولة للتضييق على الأميركيين.
وفي السياق، تشهد هذه المنطقة، منذ إبريل/ نيسان الماضي، حراكاً سياسياً ترعاه الولايات المتحدة من أجل ردم هوة الخلاف السياسي ما بين “المجلس الوطني الكردي”، وحزب “الاتحاد الديمقراطي” المتحكم الفعلي بـ”قسد”، و”الإدارة الذاتية” الكردية. وعلى الرغم من أن اتفاقاً جدياً بين الطرفين لا يزال بعيد المنال في المدى المنظور، إلا أن الجانب الروسي يتخوّف من انعدام أي فرصة لعودة النظام إلى شرق الفرات التي يُنظر إليها على أنها “سورية المفيدة”، حيث تعمقت الأزمات الاقتصادية لدى النظام منذ خروج هذه المنطقة عن سيطرته. وتضم هذه المنطقة جل الثروات السورية، من بترولية ومائية وزراعية وحيوانية، ما يجعلها مجالاً رحباً للتنافس المحموم بين كل أطراف الصراع الإقليمية والدولية في سورية. وحاول الجانب الروسي أخيراً استمالة “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد)؛ الجناح السياسي لـ”قسد”، من خلال دفع “حزب الإرادة الشعبية” بزعامة قدري جميل، والذي يدور في فلك السياسة الروسية، لتوقيع “مذكرة تفاهم” مع هذا المجلس، نصّت على “الإبقاء على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، ودمج قسد ضمن الجيش السوري على أساس صيغ وآليات يتم التوافق عليها، وإشراك مسد في العملية السياسية بكل تفاصيلها، وعلى رأسها اللجنة الدستورية السورية”. وكانت موسكو قد حاولت تقريب الرؤى ما بين النظام وهذا المجلس عبر سلسلة لقاءات في العاصمة السورية دمشق، والتي فشلت بسبب إصرار النظام على تسلّم منطقة شرق نهر الفرات من دون شروط وحل “قسد”، وهو ما يرفضه الأكراد السوريون الذين يحاولون تقليص وجود النظام في مدينتي القامشلي والحسكة للحدود الدنيا. وفي هذا الصدد، سيطرت أمس السبت “الإدارة الذاتية” الكردية على دائرة النقل التابعة للنظام في مدينة القامشلي، مع الإبقاء على الموظفين في الدائرة ومنحهم رواتب هي أضعاف ما يتقاضونه من النظام.
المصدر: العربي الجديد