لا شك ان اتفاق السلام، او ما اطلق عليه “اتفاق ابراهيم” الموقع بين دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة والحكومة الاسرائيلية من جهة اخرى برعاية امريكية، يشكل واحدة من اكثر الاشكاليات والقرارات تحديا للنظام الايراني، لما يمثله من تهديد جيواسراتيجي وجيو سياسي وجيو اقتصادي مباشر، كشفت عنه حدة التصريحات الصادرة عن القيادات الايرانية بجميع مستوياتها الارشادية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وعززته التفسيرات التي لم يبخل بها الجانبان الاسرائيلي والامريكي عن اهمية هذا الاتفاق وما يشكله من نقلة نوعية في مسار المواجهة المفتوحة بين تل ابيب وطهران من ناحية وبين الدول الموقعة وايران من ناحية اخرى، في ظل سكوت من الطرف العربي الموقع، قد يكون من موقع الحرص على عدم فتح المواجهة مع طهران على مصراعيها، وترجيحه امتصاص ردة الفعل الايرانية الاولى على الاتفاق، قبل الانتقال الى مرحلة التداعيات الحقيقية والواقعية لهذا الاتفاق التي قد لا تبتعد في جزء من خلفياتها عن مساعي مواجهة المخاوف التي لدى هذه الدول من الطموحات الايرانية وما يشكله نفوذ طهران في منطقة الشرق الاوسط من تهديد مباشر لما تبقى لها من ادوار منفردة لا تنضوي في اطار مشروع موحد ورؤية واضحة يسمح لها بان تكون لاعبا اساسيا وشريكا لا يمكن تجاوز مصالحه ودوره واهدافه من اي جهة او طرف دولي او اقليمي.
الجانب الاسرائيلي لم يتردد في توظيف هذا الاتفاق واستغلاله بالاتجاه الذي يخدم مصالحه، وبدأ عملية الترويج للابعاد الاستراتيجية والامنية والعسكرية التي تخدم مصالحه في اطار صراعه على تقاسم مناطق النفوذ بينه وبين النظام الايراني وصراعهما على الشرق الاوسط، واعتبر ان الاتفاق يحقق له تقدما نوعيا واستراتيجيا في التصدي لطهران ونقل المواجهة معها الى حدودها، وتحقيق نوع من التوازن بين الوجود الايراني على طول الحدود الشمالية من الجولان السوري وصولا الى رأس الناقورة في الجنوب اللبناني، ولعل التوصيف الذي اطلقه وزير الخارجية الامريكي مايك بومبيو بعد الاعلان عن الاتفاق وقبل التوقيع عليه يشكل وصفا دقيقا للوظيفة التي تريدها واشنطن وتل ابيب لهذا الاتفاق عندما اعتبر “الاتفاق هو تعاون امني بين اسرائيل وتل ابيب لمواجهة الخطر الايراني ويبعد الارهاب عن السواحل الامريكية”.
في موازاة ذلك، فان الداخل الايراني، خصوصا الجانب السياسي المعني في هذه التطورات، انقسم في تقويم الخطوة الاماراتية البحرينية، وهل ان الدافع المحرك لهذه الدول هو تعاظم المخاوف لديها من الدور والخطر الايراني وما يشكله من تهديد لها، ام ان تبني هذا النهج التصالحي مع اسرائيل نابع من قراءة داخل دوائر هذه الدول بضرورة الانتقال الى مرحلة جديدة في السياسة الخارجية التي تعتمدها.
البعدان، على رغم اختلافهما في قراءة الاسباب التي دفعت هذه الدول العربية ولاحقا غيرها في الذهاب الى خيار السلام والتطبيع مع الحكومة الاسرائيلية، الا انهما يتفقان في اعتبار ان الاصرار الامريكي على نقل العلاقات غير الرسمية بين هذه الدول وتل ابيب وتحويلها الى علاقات رسمية في اطار اتفاقيات يحركه حاجة ادارة الحملة الانتخابية للرئيس الامريكي دونالد ترمب لتحقيق انجاز على صعيد السياسة الخارجية يساعده في حسم التردد لدى الناخب الامريكي المحسوب على اللوبي اليهودي سواء كان يهوديا او من اتباع الكنيسة المسيحية اليهودية. وان نظام التخادم هذا ستنعكس اثاره الايجابية على موقع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو المتزعزع داخل التركيبة الداخلية لاسرائيل.
فالاتفاق الذي كان يجب ان لا يحصل وقع، من هنا تنطلق القراءة الايرانية، وقد ادخل هذا الحدث منطقة الشرق الاوسط والعالم في مرحلة جديدة، وعزز الامال الاسرائيلية بان المنطقة دخلت في المراحل الختامية لانتهاء المعارضة والمقاومة العربية لوجود اسرائيل ككيان قائم في المنطقة، ساهمت في رسم معالمها المشهدية التي استضافها البيت الابيض لحفل التوقيع، التي تخلت فيه بعض الدول عن موافقها السابقة من القضية الفلسطينية وذهبت الى خيار السلام والتطبيع والعمل على بناء رؤية جديدة لحل هذه القضية من بوابة الحوار المباشر وتوظيف المصالح المشتركة لمواجهة المخاطر الاكبر التي تهدد جميع الاطراف المعنية في عملية السلام والاستقرار.
واذا ما كانت الدوائر المختصة في العواصم المعنية بهذا التطور الشرق اوسطي قد عكفت على متابعة تداعيات وابعاد هذه الاتفاقيات، فان الادارة الايرانية والدوائر المعنية بهذا التطور قامت بالامر نفسه، بإضافة بعد اخر يختلف عن الابعاد التي تدفع العواصم الاخرى لمتابعة هذا الحدث، ينطلق من تقويم الدور الايراني في دفع هذه الدول لاعتماد هذا الخيار، وهل هي السياسة الاقليمية لايران في السنوات الماضية وعدائها مع الانظمة العربية كان العامل المحرك لمثل هذه الخطوة العربية؟ وهو ما شكل الانقسام في القراءة الايرانية.
فقد ذهبت بعض الآراء وانطلاقا من قراءة واقعية للسياسات الخارجية، الى القول ان السياسة الاقليمية لايران في عدائها مع هذه الدول تعتبر العامل الاساس في التقارب بينها وبين اسرائيل، وان التهديد الايراني لامن ومصالح دول المنطقة العربية (خصوصا السعودية والامارات والبحرين) دفعها ومن اجل الدفاع عن مصالحها وامنها للاستعانة بقدرات القوى الاقليمية الاخرى، الامر الذي سهل الطريق امام اسرائيل لاستغلال هذه الوقائع وتقدم نفسها كمصدر لتوفير الامن لهذه الدول في الشرق الاوسط.
اما القراءة الثانية، فانها ترفض ما وصلت اليه القراءة الاولى، وترى ان الدافع لدى هذه الدول لتبني خيار السلام مع اسرائيل هو عامل ذاتي لا علاقة له بايران ودورها وموقعها، وما حصل لم يكن بسبب التهديد الايراني. خصوصا وان دعم الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية والمقاومة يعتبر لدى النظام الايراني من القضايا التي تقارب القداسة في مواجهة “المشروع الصهيوني” في الشرق الاوسط. ما يعيد طرح التساؤل الرئيس حول الاثر الذي لعبته الضغوط الايرانية على الدول العربية لصالح اسرائيل، وهل ساعدت هذه الضغوط في افشال المشاريع الاسرائيلية في المنطقة؟
ويعتقد اصحاب هاتين القراءتين بان هذه التطورات تعيد طرح سؤال جوهري امام القيادة الايرانية يتعلق بجدوى السياسات والاستثمارات التي قامت بها ايران على مدى العقود الماضية في تعاملها مع المحيط العربي، ويتطلب منها ايضا اعادة تقويم حقيقي لما انفقته من قدرة واعتبار وثروات وامكانات، وبالتالي اعادة تشخيص الواجبات لتصحيح المستقبل، وهل ان الاستمرار في السياسات الحالية يساعد على ضمان المصالح والاهداف ام ان الامر بحاجة لاعادة نظر واصلاح حقيقي في السياسات التي تم تبنيها في الماضي، اذا ما ارادت التمسك بالتزامها الدفاع عن القضية الفلسطينية وما يريده الشعب الفلسطيني؟
المصدر: المدن